لم يكن ينقص الوضع اللبناني إرباكاً غير «صفقة القرن»، التي سترمي بظلالها الثقيلة على دول الإقليم الغارقة في دوامة من الحروب الداخلية والحدودية، مزقت ما تبقّى من نسيجها الوطني، وانتهكت أعز ما تملك من سيادة واستقلال واستقرار.
يرى البعض أن تداعيات «الصفعة» الأميركية الجديدة للدول العربية، ستكون مضاعفة على لبنان، المتعثر أصلاً سياسياً واقتصادياً ومالياً، والذي يفتقد القيادة الرؤيوية والحكيمة، القادرة على انتشاله من مهاوي الانحدار المرعب قبل أن يصل إلى قاع الانهيار، حيث يُصبح النهوض من جديد أكثر صعوبة وأشد تعقيداً، إذا لم يكن مستحيلاً!
لبنان الذي اعتاد الاعتماد على الموقف العربي الموحد، يواجه اليوم مضاعفات الخطة الأميركية – الإسرائيلية الخبيثة شبه منفرد، بسبب الانقسامات الراهنة في الصف العربي، والتي حاول بيان اجتماع جامعة الدول العربية تجميلها بعض الشيء، والإيحاء بوجود إجماع عربي لطروحات ترامب ونتنياهو في تصفية القضية الفلسطينية.
التطورات الدراماتيكية المتوقعة في المنطقة، واستمرار التدهور المالي والنقدي في الداخل اللبناني، يفرضان على الحكومة الجديدة، ومعها القوى السياسية المؤيدة لها، العمل بسرعة لإطلاق ورشة الإصلاحات المالية والإدارية، بفعالية وجدية حقيقيين، بهدف الحصول على مساعدات وتسهيلات شبه فورية، وقبل أن تتأزم الأوضاع حولنا، وتدخل المنطقة في متاهات الفعل وردة الفعل لخطة ترامب، التي ضربت عرض الحائط كل قرارات الشرعية الدولية، وقفزت فوق كل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والتي سبق للولايات المتحدة والدول الأوروبية أن اعترفت بها، ووثقتها في بيانات وقرارات المحافل الدولية ذات الصلة.
التأخر الحاصل في البيان الوزاري لا مبرر له، ولا يجوز أن تكون وتيرة عمل الحكومة أسيرة الروتين الإداري الممل، ولا أن تبقى الجلسات تسير برتابة التقاليد الرسمية البالية، بقدر ما البلد بحاجة إلى حكومة تعمل بنفس «فريق طوارئ»: الاجتماعات مستمرة على مدار الساعة، والخطط موضع نقاش مركّز وموضوعي، بعيداً عن الحساسيات والأنانيات التي هيمنت على مناقشات الحكومة السابقة، والوضع المالي والمعيشي يجب أن يبقى في دائرة الأولوية المطلقة، والسعي الحثيث لتخفيف وطأة الأزمة الراهنة على الناس، وخاصة ذوي الدخل المحدود والطبقات المحتاجة.
إن الإسراع في معالجة المشاكل المالية والمعيشية من شأنه أن يساعد في تحصين الوضع اللبناني بمواجهة رياح الصفقة الأميركية، المعيبة سياسياً وأخلاقياً، والتي تتنكر لأبسط مبادئ حقوق الإنسان، التي تتغنى بها أميركا ليلاً ونهاراً، وتفرض العقوبات على دول وحكومات بحجة عدم احترام حقوق الإنسان في معاملة شعوبها، وإدارة شؤونها!
وما يتردد عن «رشوة» أميركية للبنان بستة مليارات دولار، ما هو إلا استغلال بشع للأزمة المالية التي يتخبط فيها البلد، وكأن توطين الفلسطينيين هو مجرد عملية تجارية ومالية صماء، وكأن التخلي عن حق العودة من قبل الفلسطينيين هو أشبه بسلعة تُباع بأبخس الأثمان.
ومن غير المستبعد أن تُمارس واشنطن نفوذها على المؤسسات المالية الدولية لربط المساعدات والتسهيلات التي يحتاجها لبنان للخروج من النفق الحالي، بقبوله تنفيذ ما يعنيه في الصفقة المشؤومة، وخاصة بالنسبة لتوطين الفلسطينيين الذين لا يرغبون بالسفر الى البلدان التي أبدت استعدادها لاستقبالهم، مثل كندا والدول الإسكندينافية والنروج والسويد والدانمارك، من دون الأخذ بعين الاعتبار الأميركي انعكاسات مثل هذه الخطوة الخطيرة على الوضع الديموغرافي اللبناني المهزوز من الأساس، وما يترتب على كل ذلك من اهتزازات إضافية في المعادلة الداخلية.
أما على الصعيد الأمني، فالبرودة الملحوظة التي استقبلت بها طهران العاصفة الأميركية – الإسرائيلية الجديدة، توحي وكأن الجبهات العسكرية ستبقى خامدة، وأن لا خطر داهماً على حالة الأمن والاستقرار السائدة حالياً على الحدود الجنوبية، منذ تنفيذ القرار الأممي ١٧٠١ الذي أوقف المعارك في حرب تموز ٢٠٠٦.
ولكن الحالة الراهنة لا تشكل ضمانة أكيدة للوضع اللبناني، في حال قررت طهران الرد على تعثر المساعي الديبلوماسية لفك العقوبات عنها، بالمنازلة العسكرية على الجبهات التي تملك مفاتيحها، وفي مقدمتها الحدود اللبنانية.
فهل تنجح حكومة الرئيس حسان دياب في مواجهة هذه التحديات، وتُفلح في إدخال الجمل في سمِّ الإبرة… أم تبقى تدور في مهب «العاصفة» الأميركية، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً؟