كتبت لقد كان متوقعاً ومعلوماً ان الثورة في لبنان، شأنها شأن سائر الثورات في بلاد العالم، لا بد ان تستغرق وقتاً طويلاً قبل تحقيق أهدافها، وانها ستواجه مقاومة عنيفة من قبل السلطة وأحزابها التي لن تتخلى عن مكتسبات راكمتها خلال سنوات في الحكم وبعد مناورات وتسويات كلفتها الكثير… إلا ان ما تجاوز التوقعات وما لم يكن في الحسبان، هو قدرة هذه السلطة على صمّ آذانها عن صرخة الشعب المدوية، والتي تجاوزت مطالب الثورة لتصبح استغاثة شعب يائس لم يتوان البعض عن وضع حد لحياة اعتبروها عذاب لهم ولمحبيهم وفقدوا الأمل من قدرتهم على الخروج منها والتحرر من قيودها القاتلة.
تجاوزت هذه السلطة، مع كل حلفائها وممثليها، كل مفاهيم الإنسانية عبر صمتهم المطبق تجاه ما يجري في الشارع، والمآسي التي تتكشف يوماً بعد يوم في مختلف المناطق اللبنانية، عابرةً كل الطوائف والمحسوبيات، دون ان تحرك لهم جفن مشاهد المسن الذي يبحث عن قوته في حاويات القمامة في أحزمة الفقر التي تلف المدن الكبرى، والأم التي تعرض بيع كليتها لتسدد ديونها، والأخطر والأكثر إيلاماً، هو الشاب الذي سقط اسير اليأس فوضع حدّاً لحياته علّه يتحرر من مسؤوليات فاقت قدرته على التحمل.
انها أقسى الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي لم يشهد لبنان مثيلاً لها في أحلك سنوات الحرب التي مر بها، الا ان السلطة تستمر في إنكارها للواقع الأليم وتتمادى في تجاهل وجع الناس، ساعية لتحقيق الانتصارات الوهمية والحفاظ على مكاسبها عبر عض الأصابع حيناً ودفع البلاد الى هاوية الانهيار الشامل، أو عبر المساومات والمقايضات أحياناً وكأن الاقتصاد ومالية الدولة بخير وتتحمل المماطلة واضاعة الوقت للحفاظ على المصالح الخاصة وتغليب منطق الحزب والطائفة على منطق الوطن والمصلحة العامة.
أسوأ ما في هذه السلطة هو عجزها المستمر عن الخروج من مستنقع المحاصصات الذي غرقت فيه وأغرقت ادارات الدولة في وحول فساده. فبعد اكثر من خمسين يوما على انتفاضة الشعب في الشوارع وثورته على طبقة سياسية أخذت البلاد والعباد اسرى الطائفية العمياء وفشلت في الآن نفسه في تحقيق الحد الأدنى من الوعود التي روجت لها حتى تستولي على الوزارات والمراكز العامة وكأنها باتت أملاكاً خاصة للأحزاب وحقوقاً مكتسبة لها، تأتي الدعوة لاستشارات نيابية، اقل ما فيها انها متأخرة، الا ان مشكلتها الأكبر تكمن في ضربها بالدستور عرض الحائط، بعدما تم فرض اسم مرشح لرئاسة الوزراء، تحت شعار التوافق عليه، ووصلت الصورة النهائية لشكل الحكومة الى خواتيمها في ضرب واضح لدور رئاسة الوزراء وصلاحياتها.
ان تحويل النواب الى شهود زور لدى احزابهم، يبصمون حيث يؤمرون، تجردهم من تمثيلهم الشرعي للناخبين الذين صوّتوا لهم لتمثيلهم تحت قبة البرلمان، اما السعي لضمان الحصص في الحكومة الجديدة، والاتفاق على الاسماء والحقائب قبل التسمية وحتى قبل الاستشارات، لا يمكن ان يفسر الا على انه اعتداء صارخ على الدستور وصلاحيات رئاسة الوزراء، وبالتالي يطلق رصاصة الرحمة على ما تبقى من مفهوم للديمقراطية… لا بل يكرس استيلاء أخطبوط السلطة على مقدرات الدولة ومراكزها…
ان الاستمرار بنفس النهج، المرفوض شعبياً، في استيلاد الحكومة عبر تقاسم الوزارات حسب المصالح الخاصة، والسعي لفرض حكومة امر واقع لا تراعي الا فريق العهد وحلفائه، في نكران مريض لواقع الشارع المتفاقم، يعني تصعيد مقنع تجاه الثورة ووضعها امام خيارين لا ثالث لهما: اما المواجهة وبالتالي جر البلاد الى أتون الحروب، أو الرضوخ للامر الواقع تحت وطأة تزايد الضغوط المعيشية، وبالتالي إجهاضها قبل ان ترى نتائجها النور.
الا ان ما فات جهابذة العهد، انه لم يعد بإمكانهم لجم الثورة أو تحجيمها بعدما كشفت حجم الكارثة الاجتماعية الحقيقية وأسقطت الأقنعة عن وجوه شيطانية عديدة، كما انها حررت الكثير من اسرى الانتماءات الحزبية والطائفية وأطلقتهم في رحاب الوطن، ولم يعد الالتفاف على مبادئ العيش المشترك لتحقيق غايات خاصة ينفع.. ولا المتاجرة بربحية التسويات تغني بعدما قوّضت الديمقراطية وألحقت الخسائر السياسية الأشد لكل من تبناها… ولم يعد شعار استرداد حقوق المسيحيين ينفع، ولا تنازلات أهل السنة مقبولة، ولا استقواء الثنائي الشيعي بقوة السلاح ترهب العزل، ولا لعب زعماء الطائفة الدرزية دور بيضة القبان لتحقيق اكبر المكاسب تعتبر دهاءً… ان المطلب الشعبي الأوحد والأكبر هو مصلحة لبنان فقط لا غير، وحكومة إنقاذ بعيداً عن الطبقة الفاشلة التي أغرقت الوطن بوحول الفساد ودفعت به الى هاوية الإفلاس… والمعيار الوحيد المقبول لدى كل اللبنانيين على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم هوالكفاءة والنزاهة… ومقياس الربح والخسارة الوحيد الذي فرضته الثورة وما فضحت على الأرض، هو القدرة على الإنقاذ الحقيقي وليس المناورة، لأن اي فشل مقبل إنما يهدم الهيكل على رؤوس من فيه، مهما كبرت وعلا شأنها!