تستعد غالبية دول العالم لمرحلة ما بعد تفشي كورونا. متابعة استعداداتها وخطواتها الاساسية تؤشر الى حجم المخاوف الاقتصادية التي كانت دافعاً أساسياً لاتخاذ قرار فتح تدريجي في الداخل وللحدود. تصرف لبنان منذ انتشار الوباء، على قاعدة أنه يماثل الدول الأوروبية بإجراءاته وتدابيره الحيوية. لكن الحكومة وبقدر حرصها على إعلاء شأن المرض، وتكثيف التبشير بخطورته وأهمية التدابير الوقائية والحجر المنزلي وكل المستلزمات الطبية اللازمة، تعاملت كمن يحاول تحييد الأنظار عن الانهيار الاقتصادي الذي يحتّم في مرحلة ما إعادة فتح البلد كله، أسوة بما يحصل في الخليج وأوروبا وأميركا.
في لحظة ما، ستضطر الحكومة الى مواجهة حقيقة ما يجري في كل القطاعات الاقتصادية والعمالية والتربوية والصحية، من دون قفازات ولا أقنعة، لأن المرحلة الاولى من عمرها شهدت استمرار التظاهرات والمرحلة الثانية انتشار الوباء، أما المرحلة الثالثة فهي لحظة ما بعد كورونا، أي التعامل بجدية مع حجم الانهيار، وتبيان فاعلية الخطوات التي يفترض أن تتخذها هذه الحكومة، بما هو أبعد من التفاوض فحسب مع صندوق النقد الدولي وشروطه.
صحيح أن دور الحكومة السياسي غائب كلياً، بدليل النقاش السياسي الذي فتح لدى القوى السياسية الرئيسية، منذ أيام، بشأن هوية النظام السياسي ومستقبله والفيدرالية والدولة المدنية، من دون أن يكون لديها رأي فيه، إضافة الى أنه مع فتح تدريجي للدول واستعادة الحركة السياسية والديبلوماسية، لن يكون أمام الحكومة أي حجج، كي تبرر استمرار عزلتها عن الدول الفاعلة، عربياً وغربياً. ولن يكون في مقدور رئيس الحكومة أن يتذرّع بالوباء للتعمية على حجم الحصار الغربي – الخليجي لحكومته. وهذا «الحصار» يساوي الحكومة بالعهد، ما خلا وضعها على سكة صندوق النقد وتسليم رقاب اللبنانيين له بواسطتها.
لكن الدور «التقني» الذي جاءت من أجله التركيبة الوزارية يبدو هو الآخر محصور بأجندة محددة، رغم «الإنجازات» التي اعتاد رئيسها حسان دياب تعدادها منذ أن كان وزيراً للتربية. فالأزمة المستمرة منذ ما قبل انتفاضة اللبنانيين، كشفت هشاشة كل القطاعات الرسمية والخاصة، وظهرت حدتها منذ إقفال البلد. لكن حتى الآن، ورغم كثرة اللجان الوزارية المؤلفة، فإن الحكومة لم تضع نفسها على سكة المكاشفة مع أرباب هذه القطاعات وتبيان العثرات الموجودة، فضلاً عن عدم قدرتها على التعامل بجدية مع علة العلل، أي مصرف لبنان الممعن، مع المصارف، في إفلاس اللبنانيين.
في الصحة، لا يعني إنجاز مواجهة الوباء أن القطاع الاستشفائي، وما يترافق معه من وسائل التأمين الرسمية والخاصة، أثبت جدارته وتحمله المسؤولية بدل التهرب منها، لا بل إن الازمة الاخيرة أسهمت في كشف عوراته، في القطاع الحكومي كاملاً، وفي الخاص الذي تخلى عن مسؤولياته، وهو الذي يستفيد منذ سنوات طويلة الى الحد الاقصى من أموال وزارة الصحة والضمان الصحي وأموال الصناديق الاخرى، بتغطية من وزراء الصحة المتعاقبين. وهذا الأداء يحتاج الى أن يوضع سريعاً على طاولة البحث المعمّق. فلا يكفي القول إن هذه المستشفيات لها خصوصيتها، ودورها التاريخي، لتفادي المواجهة التي كشفت عند أزمة صحية – ظلت تحت المستوى الذي وصلته أوروبا – مدى التخلي عن المسؤولية.
في التربية لا يكفي أن الحكومة ووزارة التربية قررتا ترفيع التلامذة وإلغاء الامتحانات العامة. هناك أزمة تربوية فادحة تتعلق بقطاع خاص ورسمي، لم تجد الحكومة أنه حان الوقت للتعامل معه على المستوى الحقيقي. العام الدراسي المقبل مهدّد بكامله، نتيجة الازمات المالية على القطاعين، وهذا تنبيه جرى التبليغ عنه منذ العام الماضي. وهي أزمة ستطاول كل المستويات المتعلقة بالقطاع التربوي، من إقفال مدارس وطرد أساتذة ومصير طلاب. وهذا إضافة الى كونه مشكلة اجتماعية، فإنه مشكلة تربوية علمية لا يمكن للبنان الاستهتار بها، أو التذرع بطائفية هذا القطاع مسيحياً أو إسلامياً، خاصاً أو عاماً، للتهرب منها وعدم التعامل معها بجدية مع كل القوى الدينية والمدنية المعنية بها، بدل رمي الكرة في ملعبها وحدها.
اقتصاديا وزراعياً وصناعياً وتجارياً، لا يمكن أحد الوزراء المعنيين أن يتذرع بأن الخلافات السياسية هي التي تحول دون لجوء الحكومة الى مواجهة انهيار الليرة والغلاء. يكاد كلامه يشبه كلام المعارضة حين يتحدث عن أسباب العجز عن تطبيق إجراءات ضرورية لوقف النزف الداخلي، وما يتبعهما من مشكلات من طرد موظفين وعمال بالمئات وتوقف مصانع ومؤسسات تجارية والاحتمالات المفتوحة على تفشي الجرائم والسرقات. وكأن كل ذلك ليس أحد الاسباب التي جاءت من أجلها الحكومة «التقنية»، التي ستكون مضطرة الى التعامل مع الازمة الفادحة قريباً، بعدما تزول كل مبررات الحجز ومنع فتح المحال التجارية الكبرى والمصانع وغيرها، لأن الايام الاولى لبداية الفتح التدريجي، أعطت بعض الاختصاصيين المعنيين لمحة أولى بالارقام عن الاشهر الصعبة جداً التي ستقبل عليها العائلات اللبنانية، علماً بأن المدخرات، ومن ثم المساعدات التي تدفقت في الاسابيع الاولى أسهمت في تخفيف بعض الآثار السلبية، لكنها ستنتهي قريباً، كما تنتهي كل «الهمروجات» العشوائية، وتبدأ معها رحلة التفتيش الجدي عن حلول، ولو مبدئية، وعن أجوبة واضحة عن مصير العائلات والعمال والموظفين في مواجهة الفقر والجوع والاموال الضائعة، والأهم عن حكومة أصيلة تكون مهمتها تنفيذ الهدف الذي جاءت من أجله، بدل أن تتصرف على أنها حكومة تكنوقراط في زمن الرخاء الاقتصادي أو على الأكثر… حكومة بدل من ضائع.