أصبح واضحاً سقوط كل المحاولات الداخلية في الحد من تداعيات سلسلة الأزمات التي تُحاصر الوضع اللبناني، وأدت إلى هذا التدهور المريع اقتصادياً ومالياً، اجتماعياً ومعيشياً، وأوصلت البلاد والعباد إلى الإفلاس.
لم تُفلح الحكومة في اتخاذ أي قرار ناجع، بل حتى لم تُعدّ إي خطة ناجحة للحد من سرعة الانحدار المستمر بلا هوادة منذ اليوم الأول لتشكيل الحكومة، فيما مجلس الوزراء وأهل القرار معه، يكتفون بهندسة التعيينات على قواعد تقاسم المصالح والمحاصصات المعهودة، وكأن البلد ما زال تلك البقرة الحلوب… وحليبها لا ينضب!
التسليم بهذا الواقع المُفجع، دفع بالفريق الذي يُدير اللعبة السياسية، وفي المقدمة حزب الله وما يُمثل في المحور الإيراني، بالتوجه نحو الخارج، بحثاً عن أوراق يمكن الاستفادة منها في المواجهة المفتوحة بين أميركا وإيران في لبنان وعلى امتداد الإقليم.
أصبح موقف هذا الفريق أكثر تواضعاً، وأقرب إلى حقائق الواقع المحرج لهم، بعد أشهر من المكابرة والإنكار لحجم الأزمات التي يتخبّط فيها البلد، ومدى العجز المدمر المهيمن على مراجع القرار في السلطة.
الاعتراف بالواقع المرير أعطى جرعة ديبلوماسية مهمة للمفاوضات الجارية بين الطرفين الأميركي والإيراني في سلطنة عُمان، وكادت تُسفر عن تغيير حكومي في لبنان، لولا حصول الضربة المدمرة في منشآت «نطنز» النووية الإيرانية، التي دفعت طهران إلى التريث في لبنان، والاكتفاء بما تحقق حتى الآن، من تبادل سجناء مع واشنطن، بما في ذلك «تهريب» العميل عامر فاخوري من بيروت على متن طوافة عسكرية أميركية، وإطلاق سراح «وزير مالية» حزب الله قاسم تاج الدين، قبل إتمام سنوات محكوميته في السجون الأميركية.
ومع اشتداد وطأة الحصار الأميركي والغربي على لبنان، تم طرح شعار «التوجه نحو الشرق»، من باب تهديد المصالح الأميركية والغربية في الوطن المحاصر وفي الإقليم، ولكن هذا الطرح أثار عاصفة من الانقسامات وردود الفعل الداخلية، عطلت المفعول المتوخى منه، وتبين أن روسيا والصين لم يُبديا حماساً لتلقف هذه الخطوة، لعدة اعتبارات، لعل أهمها أن حجم الاقتصاد اللبناني لا يشكل جاذباً مهماً يستحق المغامرة بخسارة أسواق كبرى من أجله، فضلاً عن أن الوضع المالي والاقتصادي في لبنان، أسير مخاطر جمّة، تجعل من الصعوبة بمكان توفير الضمانات اللازمة للاستثمارات في البلد، ولا سيما في ظل عدم حسم الحكومة اللبنانية في إجراء الإصلاحات المطلوبة.
توجّه الفريق السياسي الحاضن للحكومة إلى الخارج ينطوي على مقاربتين تجمعان بين الترغيب والترهيب في آن واحد، للداخل كما للخارج.
لقاء رئيس الحكومة المطوَّل مع السفيرة الأميركية يندرج في إطار سياسة الترغيب، وتأكيد الانفتاح، وعدم الرغبة بالوصول إلى المقاطعة التامة مع واشنطن، مقابل تفهم الإدارة الأميركية لبعض الاحتياجات اللبنانية الأساسية والاستراتيجية، وإبداء بعض المرونة والاستثناءات في تطبيق «قانون قيصر».
بموازاة هذه الخطوة الداخلية، بدأت إشارات التحرك الخارجي تظهر على خطيّ مصر والكويت، الأولى من خلال رسالة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى العماد ميشال عون، والثانية عبر الزيارة المفاجئة للواء عباس إبراهيم إلى الكويت، حيث يتمتع بعلاقات مميزة مع كبار المسؤولين الكويتيين، الذين أبدوا استعداداً دائماً لمساعدة لبنان في تنفيذ بعض المشاريع الحيوية، وخاصة في قطاع الكهرباء.
أما مقاربة الترهيب فتبدأ من الجنوب براً، إلى المنطقة المتنازع عليها بحراً، وصولاً إلى المنشآت النفطية الإسرائيلية. وكانت تكهنات حول احتمال فتح جبهة الجنوب من قبل حزب الله قد راجت قبل أسابيع، في ذروة التأزم الداخلي، وتعثر المفاوضات غير المعلنة بين واشنطن وطهران. وترافقت تلك التكهنات بإقدام العدو الإسرائيلي على إجراء مناورات عسكرية كبيرة على الحدود اللبنانية، وتصاعد لهجة خطاب حزب الله عشية ذكرى حرب تموز ٢٠٠٦، وإعلان أمينه العام الاستعداد «لقتل من يُحاول قتلنا بالجوع».
لبنان إذن في صلب المواجهة المحتدمة في الإقليم، وبظروف اقتصادية ومالية صعبة ومعقدة، ومع إدارة عاجزة وفاسدة، لا توحي بالقدرة على إخراج البلد من النفق المظلم.
ودعوة البطريرك الراعي لاعتماد الحياد وسياسة النأي بالنفس عن الصراعات المشتعلة في المنطقة، فتحت كوّة في الجدار السميك للأزمة، ولكن تثميرها يحتاج إلى جبهة سياسية وطنية، تكون قادرة على إعادة التوازن إلى المعادلة الداخلية، وتصحيح المسار السياسي بالوسائل الديموقراطية، وفي مقدمتها إجراء انتخابات نيابية بقانون عصري ومتوازن، واستعادة ثقة الداخل والخارج عبر الإصلاحات المالية والإدارية، التي تنتظرها الدول المانحة منذ سنوات وسنوات!
لمن ستكون الغلبة: لسياسة الترغيب أم لمسار الترهيب؟