الجيش ما زال النجمة الساطعة في ظلام هذه الدولة المتهالكة، والتي تتساقط مؤسساتها الواحدة تلو الأخرى، فيما أهل القرار يتلهون في الإجتماعات الجوفاء، ويتفرغون لتوزيع الإتهامات العشوائية للآخرين، لأنهم «لا يتركونا نشتغل»، على حد القول المعروف لرئيس التيار الوطني جبران باسيل!
عيد الجيش كان مناسبة وطنية جامعة إحتفل بها اللبنانيون على مستوى الوطن، وأعطاها إحتفال «كرمالك يا وطن» بُعداً حضارياً مميزاً، توحدت كل الشاشات اللبنانية في نقله، وأشاعت أجواء من البهجة في نفوس المواطنين العطشانين لبادرة أمل، توحي بإمكانية الخروج من كوابيس المحنة المعيشية والمصيرية التي تقضّ مضاجعهم منذ أشهر مريرة، دون أن يتمكن أهل الحل والربط من الإمساك بطرف خيط الحلول المناسبة.
ولكن صدمة اللبنانيين كانت كبيرة، عندما سمعوا كلمات كبار المسؤولين، وخاصة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، تكتفي بوصف الأزمة ومتفرعاتها، وتُركز على تحميل الآخرين مسوؤلية الإنهيار، وتتهم بعضهم بعرقلة المساعدات في الداخل والخارج، دون التطرق، لا من قريب ولا من بعيد، لبنود خطة الإنقاذ التي إلتزمت هذه الحكومة على وضعها وتنفيذها، فضلاً عن غياب الإشارات الواضحة عن التوجهات التي سيتم إعتمادها للحد من تدهور العملة الوطنية، والحفاظ على ما تبقى من قيمة الرواتب، وقدرات أصحاب الدخل المحدود لمتابعة حياتهم اليومية في ظل هذا الإنحدار الرهيب.
لا نريد الخوض في نقاشات بيزنطية عن مسؤولية عهود وحكومات الثلاثين عاماً الماضية في الوصول إلى هذا الدرك من التردي والتأزم المالي، بالنتيجة كل القوى السياسية والحزبية الحالية كانت مشاركة في السلطة، وفي إتخاذ القرارات المالية والإقتصادية، وبالتالي فهي تتحمل، بشكل أو بآخر، وبنسب مختلفة طبعاً، وزر ما آلت إليه الأوضاع المتردية، مالياً وإقتصادياً ومعيشياً.
ولكن ما يهم الناس اليوم، طالما أن المحاسبة غائبة، وإسترداد الأموال المنهوبة من رابع المستحيلات، هو معرفة مصير الخطة الإنقاذية التي ستعتمدها الحكومة للحد من الإنحدار أولاً، ثم العمل على إعادة التوازن لمالية الدولة وتخفيف أعباء المديونية العامة، وما يُفترض أن يواكبها من إصلاحات مالية وإدارية وبنيوية، وما من المتوقع أن تحققه من إنفراجات إجتماعية ومعيشية، تستعيد ثقة الدول المانحة بجدية تنفيذ الوعود الإصلاحية التي إلتزم بها لبنان في مؤتمر سيدر على الأقل.
لا ندري إذا كانت سياسة إتهام الآخرين بالتقصير حيناً، وبالعرقلة والحرتقة أحياناً، ووضع من نختلف معهم بالسياسة في خانة الأعداء، تساعد على الخروج من سلسلة الأزمات الراهنة، أم أن الأجدى هو البحث في عملية إنقاذية جريئة وواقعية، يلتف حولها الجميع، ويتحمل فيها كل قطاع نصيبه العادل من التضحيات، في إطار أداء الواجب الوطني، أولاً وأخيراً، ودون منّة أو جميل لأحد.
لسنا بوارد إستعراض أرقام الدين عشية إستشهاد الرئيس رفيق الحريري، ولا تعداد المشاريع الإعمارية والتنموية التي حققها في فترة قياسية من الزمن، ولسنا بمعرض التذكير بحجم المديونية العامة قبل ثلاث سنوات، وكم أصبحت اليوم، وكيف تفشى الفساد في السنوات الأخيرة، وبلغ مستويات غير مسبوقة في تاريخ دولة الإستقلال، على حد قول بعض المسؤولين الحاليين أنفسهم، والزيادة المضطردة في عجز المالية العامة، والتي أدت إلى الإفلاس الحالي، ولكن من حق كل لبناني أن يسأل: هل العهود والحكومات السابقة مسؤولة عن حالة الفوضى الراهنة في تأمين المحروقات لمعامل الكهرباء، وتعميم العتمة وتعطيل المولدات؟
وهل كانوا هم أصحاب البرامج الوهمية لتأمين الكهرباء على مدار الساعة منذ أكثر من عشر سنوات، والتي بقيت كلاماً في الهواء، رغم كل ما رصد لها من أموال وميزانيات؟
ومن يتحمل تبعات هذا التعثر في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بسبب الإختلاف المُعيب بالأرقام بين خطة الحكومة وتقديرات البنك المركزي: الحكام السابقون أم أهل القرار والنفوذ في السلطة الحالية؟
وماذا نقول عن مشكلة النفايات التي طمرها السابقون في مطمر الناعمة، ووضعها الحاليون على الشواطئ على مقربة من المرافق الحيوية، في خلدة قرب المطار، وفي برج حمود قرب المرفأ؟
مسلسل مثل هذه المقارنات طويل ومتشعب، ولكنه مثل خطاب الإتهامات التي لا تُسمن ولا تُغني عن جوع، لا طائل منها في خضم هذه الدوامة المصيرية التي يتخبط فيها البلد، والتي تتطلب رؤية ثاقبة وبرنامج عمل جدّي، لا سيمفونيات من الهروب إلى الأمام والتضليل.
الوطن أمام تحديات مصيرية، داخلية وإقليمية، والتطلع إلى الوراء، ورمي المسؤولية على الآخرين لا يُفيد، ويهدر المزيد من الوقت والفرص الضائعة، ويضع محاولات الإنقاذ والإصلاح الخجولة في مهب خطاب الإتهامات.
هل تتجرأ السلطة الحالية في تحمل المسؤولية الوطنية والتاريخية لإيصال السفينة إلى شاطئ الأمان، رغم كل ما تعانيه من ثقوب وإختلالات؟