سواد يغطي سماء لبنان جراء حريق في المرفأ ومعه مشهد سوداوي يجب أن يستعد له اللبنانيون، جراء احتراق المبادرة الفرنسية وسقوط عملية تشكيل الحكومة تحت ضربات العقوبات الأميركية، بانتظار ما هو متوقع من أن يعلّق الرئيس المكلف مصطفى أديب ورقة نعوة المبادرة في قصر بعبدا الأحد، مقدماً اعتذاره عن التكليف بعد ان اوصدت كل الابواب في طريقه وطريق الفرصة الأخيرة. ويدخل بعد ذلك لبنان مرحلة الانهيار الكبير، وسقوط الهيكل وعودة رفع المتاريس الطائفية، لتسلّم حينها بيروت على دمشق وبغداد… إنه السيناريو الأكثر ترجيحاً حتى الأمس. وليس تحليلاً تشاؤمياً بقدر ما هي معطيات “أهل المبادرة”، و”ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون” (سورة المائدة).
كان “أهل المبادرة” يراهنون على قدرة ماكرون على تأجيل العقوبات الأميركية إلى ما بعد التشكيل، وأن تكون كالعصا لمن لا يلتزم بما قاله على الطاولة في منزل السفير الفرنسي. إنها العقوبات التي جذبها إلينا “حزب الله”، فصحيح انها كانت رسالة مزدوجة إلى الرئيس نبيه بري ورئيس المردة سليمان فرنجية حليفي “حزب الله”، إلا أنها في الحقيقة، كانت رسالة إلى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بأن لا تأجيل في المسار الاميركي. ولم تردها أميركا عصا أو جزرة للتهديد، بل باتت العقوبات كـ”سكين” مزّق أوراق المبادرة وجعلها تتساقط. ولا يمكن الاغفال أن زيارة رئيس “حماس” اسماعيل هنية وتصريحاته زادت الطين بلة.
قبل ساعات من العقوبات كانت التشكيلة الحكومية قد شارفت على نهاياتها، وزيارة أديب لبعبدا الأخيرة كانت تستبق زيارة الاعلان عن الحكومة، لكن رياح العقوبات اتت بما لا تشتهي السفن، بدأت بالوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، وتستكمل بعد أيام لشخصيات أخرى، وجبران باسيل ليس بعيداً عنها.
جسد “الثنائي” الشيعي “تمسح عقوبات”. أما في قصر بعبدا فهناك من يشجع “الثنائي” على خيار التشدد والعودة عن الاتفاق، بعدما شعر أن نيران العقوبات قد تطال “الصهر المدلل”. وصندوق الحجج واضح: بأن جهود ماكرون لم تأت ثمارها والمبادرة لا تحظى بغطاء أميركي أو سعودي وبأنها ستكون أشبه بحكومة بروتوكولية تمنع الفراغ لكن لا تؤدي الغرض لانقاذ البلد. في الوقت نفسه، فإن وصول العقوبات إلى “ميرنا الشالوحي”، في حال حصلت، لا يعني أن باسيل لم يصفق لما قامت به أميركا التي استهدفت سياسياً أحد خصومه الرئيس نبيه بري، وقضت على آمال رئيس “المردة” سليمان فرنجية بالرئاسة، أما الأهم بالنسبة إليه اسقاط المبادرة الفرنسية التي يُعتبر فيها أكبر الخاسرين. سقوط المبادرة الفرنسية يعني أن الأبواب والنوافذ مغلقة أمام لبنان، أقله إلى حين معرفة مصير الانتخابات الأميركية، التي ستكون أهم انتخابات منذ الحرب العالمية الثانية، لما لها من تأثير على استحقاقات رئاسية في العراق وايران وسوريا العام المقبل وبعدها استحقاقات نيابية وبلدية ورئاسية في لبنان عام 2022. الحريري لن يسمي أي مرشح آخر لرئاسة الحكومة، فالفرصة الأخيرة سينتهي مفعولها بعد أيام ولم يعد هناك ما يمكن أن يقدمه. طريق نواف سلام بالنسبة لـ”الثنائي الشيعي” مغلقة وتم وضع قفل ثان عليها بعد العقوبات، في الوقت نفسه الخيارات امام السلطة معدومة، فأكثر ما يمكن الاتيان به هو حسان دياب آخر، أما ميشال عون فالاستقالة لديه مستحيلة بحماية مسيحية وعلى رأسها البطريرك الراعي. ولا انتخابات نيابية مبكرة ولا قانون جديد… اسقاط المبادرة يعني شللاً سياسياً لسنتين ستكون أثمانه هذه المرة باهظة على اللبنانيين، خصوصاً ان الدعم للغذاء والقمح والأدوية والمحروقات سيتبخر خلال شهرين أو أقل، لتفتح بعدها ابواب جهنم الاجتماعية… “فهل يذوّب الشاي السيلاني سكر الانقاذ… أم تلسع سخونته ألسنة شاربيه فيستيقظون؟”.