على قاعدة «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» انتشر «الصمت» الذي ظللّ «بيت الوسط» لفترة قبل التكليف، لينتشر كما «الجائحة» ويصل الى بعبدا والمقار الرسمية. ففي المبدأ الصمت يسمح بإمرار الاتفاقات السرّية، ويخفي عيوب التنازلات عن السقوف العليا التي لجأ اليها البعض، ويغلّف ما يعوق التفاهمات الى حين انجازها، قبل إلباسها الآليات الدستورية. وعليه ما الذي يخفيه هذا الصمت؟
لا يمكن لأي عاقل إلّا ان يتوقف امام موجة الصمت حول ما تحقق من البناء الحكومي الجديد. فعلى وقع التحركات السريعة للرئيس «المجرّب ـ المكلّف» تشكيل الحكومة، حرصت المراجع ومصادر المعلومات الرسمية على مواكبتها بالصمت، والاكتفاء بوضع ما يجري في خانة الإيجابية، من دون اي تفاصيل إضافية تثبت ذلك وتعطيه طعماً جيداً يريده اللبنانيون وينتظرونه على احرّ من الجمر، إن كانت عملية التشكيل تضع حداً للمأساة اليومية بكل وجوهها.
وليس من الصعب البحث عن الدلائل لإثبات هذه المعادلة. فمجموعة السيناريوهات التي تسرّبت وتحاكي المرحلة الطبيعية التي تلي الاستشارات النيابية الملزمة وغير الملزمة بوجوهها السياسية والدستورية، تعرّضت لمكامن النفي والتكذيب بإصرار غير مسبوق، فأسقطت كثيراً منها، والى درجة كادت تأتي على التوصيف الإيجابي للحَراك الجاري، وتنفي صدقيته وتحوّله مجرد مزاعم تخفي خلفها ما لا يدعو الى الإرتياح.
وفي عزّ المواجهة القائمة بين مجموعة السيناريوهات المتداولة ومشاريع إسقاطها ببيانات التكذيب والنفي، مع التحذير من التمادي بها، يبدو للوهلة الأولى انّ هناك خروقات كبيرة في هذه المواقع الرسمية، تشير الى احتمال وجود اكثر من رأي ومنطق، قد يؤدي الخلاف بين اصحابها في حال حصوله وتفاعله، الى نسف الجهود المبذولة في اي وقت. وإن صح ذلك، فإنّه يعني انّ على اللبنانيين التشكيك في كل ما قيل عن تفاهمات سبقت عملية التكليف بين الرئيس المكلّف وبين ثنائي حركة «أمل» و»حزب الله» ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيس تيار «المردة» وحزب «الطاشناق»، على اعطائهم حق تسمية وزرائهم، والتنازل نهائياً عن مبدأ المداورة، وإعادة تكريس الحقائب الحصرية للمذاهب والجهات السياسية، التي فشلت في إدارتها وقادت الى عقوبات اميركية لم يجف حبرها بعد.
وهو ما يمكن ترجمته تلقائياً، بأنّ كل ما قُطع من عهود ووعود كانت مجرد اوهام. والطامة الكبرى، انّ الحديث عن هذه المعطيات قد بدأ يخضع للتدقيق والتمحيص وإعادة النظر في شكله ومضمونه، عندما بدأ الرئيس المكلّف مشوار التفاهم المُنتظر مع رئيس الجمهورية ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، لتكتمل الدورة الطبيعية المؤدّية الى تشكيل الحكومة بتوافق هؤلاء جميعاً، ضماناً للثقة المطلوبة من المجلس النيابي.
وبعيداً من اي تفسير خاطئ لهذه الوقائع والتشكيك بها او العكس، فإنّ الحديث عن ايجابيات يقترب من مدار العجائب التي لم تعد ممكنة. وانّ هناك كثيراً من العقبات التي يجري تذليلها بصمت، مهما كانت المهمة صعبة. فإسقاط التفاهمات السابقة التي لم ينفها احد قبلاً، والتراجع عنها، يوحي بصدمة كبرى لا يريدها أحد ممن ينتظرون الفرج ووضع حدٍّ لتدهور الأوضاع على اكثر من صعيد، نقدي ومالي وصحي وتربوي وبيئي، وربما امتد الى الأمني منها، هذا عدا عمّا هو مُنتظر من تداعيات المفاوضات التي انطلقت من اجل ترسيم الحدود البحرية، ولا سيما في ظلّ موجة التطبيع العربية مع اسرائيل.
وعليه، فإنّ من تختلج في صدره مجموعة الصور المتناقضة هذه، يعتقد صادقاً انّ في اثبات وقوعها، إن تحققت، بداية تلمّس وإحصاء للأضرار التي لحقت بالمبادرة الفرنسية في شقها الأول الحكومي، وما تلقيه من ظلال كثيفة على المراحل اللاحقة منها. فهي – اي المبادرة – قالت اولاً بـ «حكومة مهمّة» من الإختصاصيين المستقلين غير الحزبيين، مع التنبّه الى مخاطر «الخداع والغش» التي اتقنها اللبنانيون، والتي يمكن ان ترتُكب في اي وقت، كما جرى ابان تجربة السفير مصطفى اديب. وكل ذلك يجري من دون اغفال انّ المجتمع الدولي ما زال يؤمن بوجود «خصوصية لبنانية» تمكّن المسؤولين اللبنانيين من «لبننة» المبادرات الدولية وتطويعها بعد التلاعب بأولوياتها، وان تجاهلتها لمراحل مؤقتة، فإنّها تحتسبها بدقة، وبات الموفودون الدوليون المخضرمون يعترفون بوجودها ويعطونها اهمية مقبولة، ويسمحون بالحدّ الأدنى منها.
ولذلك كله، فإن لم يتجاوز الرئيس المكلّف ومعه معاونوه عملية التأليف بالمواصفات المطلوبة فرنسياً ودولياً، فكيف يمكنهم ولوج المراحل اللاحقة من المبادرة، والتي قالت بالإصلاح المنشود في الطاقة والنقد والإدارة والمالية العامة ومستويات أخرى، لتؤهّله لإستعادة ما يمكن ان تأتي به المؤتمرات الدولية القديمة والجديدة، وكذلك لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الذي سيمدّ لبنان اولاً بـ «أوكسيجين» العملات الصعبة، ويفتح الطريق امام إحياء ثقة المجتمع الدولي المتمثل بالدول او المؤسسات المانحة، لتعود الى برامج الدعم التي تشكّل اولى الخطوات لاستعادة لبنان الحدّ الأدنى من عافيته.
والى تلك المرحلة، يقول العارفون، انّ على اهل الحكم والحكومة الخروج من منطق اغفال ما هو قائم من ازمات خطيرة، لا تنتظر الحلول البعيدة والمتوسطة المدى، والتنبّه الى حجم المخاطر المحيطة بحياة اللبنانيين اليومية، ووقف المهازل المرتكبة في اكثر من قطاع، عدا عن تردّدات جائحة الكورونا، التي تجاوزت كل السقوف المقدّرة.
وبناءً على ما تقدّم، ينتظر المراقبون انتهاء فترة الصمت التي بدأت من «بيت الوسط» عشية التكليف، وعمّت المواقع الرسمية الأخرى. وهو ما دفع أحد المراقبين الدوليين الى تشبيه انتشارها بموجة «كورونا» المتنقلة بسرّية تامة، وخصوصاً اذا ثبت انّ بيانات النفي والتكذيب التي طاولت سيناريوهات متفائلة، منطقية وجدّية جداً. وان كان العكس صحيحاً، فليس على المعنيين سوى البحث عن مصادر تسريبها. فهم بالتأكيد من «اهل البيت» يتآمرون على سيّده ومَن فيه.