يُجمِع قادة العالم ان مشكلة لبنان هي في قيادته السياسية المتنفذة. قال هؤلاء القادة رأيهم صراحةً منذ بداية الأزمة الراهنة، وكرّروه بحدّة بعد انفجار المرفأ. المؤسسات المالية الدولية اتهمت المسؤولين اللبنانيين بتعمد الانهيار، والرئيس الفرنسي ماكرون تخطى التوبيخ في توجهه اليهم ووزير خارجيته لو دريان فاقه غضباً واشمئزازاً.
الكلام نفسه تردد على لسان الاتحاد الاوروبي والبريطانيين، وتكرر بتعابير متحفظة على لسان الروس وجامعة الدول العربية، والخلاصة من كل ذلك ان اصحاب السلطة والقرار لم يفشلوا فقط في بناء دولة والمحافظة عليها، بل انهم امعنوا في تفتيتها وانهاكها لمصلحة اماراتهم ومناطق نفوذهم ومشاربهم ومشاريعهم الموهومة.
كان “النجاح” في استيلاد حكومة جديدة بعد مخاضٍ استغرق 12 شهراً (رقمٌ يدفع الى التأمل) مناسبةً لاستعادة فكرة احياء الدولة التي تقوم بمؤسساتها واحتكارها سلطة القرار، بوصفها منبثقة عن مجلس نيابي منتخب لا يملّ من تذكير ناخبيه بأنه المرجع وصاحب القرار… و”سيد نفسه”. غير ان الحكومة المولودة حديثاً بكامل مواصفات الالتزام بالنصوص، لاقت الى جانبها سلطة أخرى تنافسها في مهامها وصلاحياتها من دون استئذان او لجوء لهيئة التشريع والاستشارات. هذه المرة خضع “السيد نفسه” لسيد آخر اخذ على عاتقه المساهمة في استيراد المحروقات وتسعيرها وبيعها، وأخضع معه الحكومة التي في العادة تتولى الاشراف على القطاع استيراداً وتمويلاً وتسعيراً وبيعاً…
والحقيقة تقال ان “السيد نفسه” موافق فعلياً على استيراد حزب للنفط بدلاً من قيام الدولة بهذه المهمة ومن دون اشرافها، وهو ربما يرى في ذلك خدمة للجمهور المتعطش للمحروقات. لكن الموافقة شيء والقول بأنه متمسك بالدستور والمؤسسات شيء آخر، وهو في موقفه الذي ينعكس في غياب الموقف الحكومي، يواصل سياسةً سابقة سمحت بان تغزو الميليشيات اللبنانية سوريا للقيام بواجب الدفاع عن النظام، وان تقوم الميليشيات اياها بمهام مماثلة في بلدان عربية اخرى وانحاء مختلفة من العالم.
لا شك ان الاتيان بالمازوت الايراني سيلقى ترحيباً في اوساط محرومين من المادة، لكن المازوت العراقي وصل في اليوم نفسه وباتفاق بين حكومتي لبنان والعراق، ومع ايران كان يمكن حصول الأمر نفسه رغم الحظر الاميركي، ففي النهاية جاءت الناقلة الايرانية الى بانياس وعبرت الصهاريج السورية الحدود ولم يعترض الاسطول السادس ولا نفتالني بينيت، والخاسر الوحيد كان الدولة اللبنانية بما يفترض ان تكون عليه كسلطة تجسد وحدة اللبنانيين… بما في ذلك استيرادهم وصادراتهم.
ما وصلت اليه الدولة هو نتاج تراكم. عندما جرى تخصيص مقاومة الاحتلال الاسرائيلي تخلت الدولة عن مهامها، وفرّقت بين ابنائها، وعندما تركت المصارف تتلاعب بأموال الناس خصخصت النهب العام، ويوم جعلت الفراغ في المؤسسات سياسة راسخة كرست نظام الزعامات الطوائفية وملوك الأطيان والحارات.
لكن كل ذلك لا يبني وطناً. في سالف الازمان ارتأى زعيمٌ في صور ان يستقل بمدينته فحكمها وسكّ عملةً كتب عليها “عزّ بعد فاقة… الأمير علّاقة”، فلم يدم العز طويلاً لأن علّاقة علِقَ في براثن الجغرافيا التي اطاحته.