IMLebanon

… وغداً حكومة؟

 

وفاق وطني، وحدة وطنية، أغلبية سيادية… صيَغٌ عديدة يتداولها اللبنانيون بسياسييهم وإعلامييهم ومجلسهم النيابي…، بينما لكلٍّ من هذه الحكومات المتداولة وقعها الخاص على مستقبل لبنان واللبنانيين.

 

فحكومة “الوفاق الوطني”، التي عايشها اللبنانيون على مدى ثلاثة عقود، باستثناء السنوات الثلاث الأخيرة، تعني الإتفاق على تقاسم السلطة التنفيذية من قبل المجلس النيابي؛ وذلك بتوزيع الوزارات على الكتل النيابية، أي كما يسميها المواطنون حكومة “توزيع الحصص”. هذه الصيغة تتناقض مع النظام الديموقراطي في لبنان، لا بل تلغي هذا النظام طيلة ممارستها السلطة؛ فهي بذلك تتفلَّت من مبدأ الرقابة والمحاسبة (جوهر النظام الديموقراطي)، لا بل يتحوَّل معها النظام اللبناني من نظام ديموقراطي إلى نظام “أوليغارشي” يُصنّف من بين الأسوأ في الأنظمة الإستبدادية؛ فديكتاتورية الرجل الواحد يمكن اختراقها، بينما ديكتاتورية “القلّة” الحاكمة يصعب اختراقها، لأنها قادرة على امتصاص اعتراضات ونقمات الجماعات المتفرقة تحت عناوين عديدة. وهذا ما أدى إلى الإنهيار الذي نعيشه اليوم.

 

وحكومة “الوحدة” الوطنية، هي بدعة كاذبة في لبنان، يحاول التلطّي خلف معانيها النبيلة الفريق الذي يمعن في تهديم هذه الوحدة وتدميرها كل يوم، بغطاء من ذميين وتجار كراسٍ. فالدول الحرة الديموقراطية تلجأ إلى تشكيل حكومات “وحدة وطنية” عندما يستجدُّ خطر خارجي داهم: خطر لا يختلف على توصيفه والإقرار بخطورته مواطنان إثنان في ذلك البلد، فتتجمع إرادات القادة وطاقات الدولة بإجماعٍ شعبي لجبه الخطر دفاعياً وسياسياً واقتصادياً…؛ وعندما يزول الخطر تُحلُّ الحكومة لتعود اللعبة الديموقراطية إلى ممارسة دورها في الرقابة والمحاسبة. بينما في لبنان ينفرد “حزب الله” ومعه بعض “الذميين” التجار في تحديد المخاطر الاستراتيجية على لبنان، فيحدد كيفية مواجهتها ليخوض، وبتغطية من تجار الوطنية، حرباً كونية لا طاقة للبنان على تحمُّلها، ليتحوَّل لبنان إلى مضرب مثل في فشل الدولة وانهيارها.

 

وأخيراً حكومة الأغلبية النيابية؛ وبالتأكيد لا تتوافق مع النموذجين الآنفي الذكر: أي حكومة “نفاق” وطني أو حكومة “فراق” وطني. فنموذج الأغلبية الحاكمة، والذي يطبقه معظم دول العالم الحر، ينبثق من أغلبية نيابية خاضعة للمراقبة والمحاسبة، من قبل معارضة نيابية فاعلة، بمواكبة إعلامية ناشطة ودينامية رأي عام واعٍ ومدركٍ مصالحَه الحيوية الإستراتيجية في السياسة والإقتصاد والأمن… والتي لا يختلف المواطنون على تعريفها. إنه النموذج الذي قاد شعوب العالم الحرّ إلى التطور والإزدهار. في هذه الأنظمة، قد تؤدّي المعارضة دوراً أهم من دور السلطة الحاكمة، فهي تمنع هذه الأخيرة من الجنوح والتسلُّط وممارسة الفساد، عندما تراقبها وتحاسبها وتصحّح مسارها وتسقطها إذا فشلت. لأن علم السياسة يقول: “السلطة تُفسِد، والسلطة المطلقة تُفسِدُ حتماً”.

 

خاض اللبنانيون الإنتخابات النيابية الأخيرة تحت عنوانين: الأول هو سيطرة الدويلة على الدولة بقيادة “حزب الله”، والثاني هو تحرير الدولة من الدويلة وراعيتها إيران باستفتاء شعبي. المشروع الأول يقوده “حزب الله” بالتحالف بين المافيا والميليشيا، والمشروع الثاني تشكل فيه القوات اللبنانية النواة الصلبى. وقد أثبتت نتائج هذه الإنتخابات أن غالبية اللبنانيين (سُنُّةً ومسيحيين ودروزاً… وقلّة من الطائفة الشيعية التي تجرّأت ورفضت الإقتراع أو اقترعت ضد الثنائي الشيعي)، تُحَمِّل “حزب الله” وحلفاءه مسؤولية التردّي الذي وصلت إليه الساحة اللبنانية. لذلك فحكومة الأغلبية، التي ستنبثق عن المجلس النيابي، يجب أن تترجم هذا التوكيل الشعبي الجارف لحكومة سيادية قادرة على كسب ثقة المؤسسات الدولية والمجتمعين العربي والدولي. ولكن لماذا حكومة سيادية أولاً؟

 

لأن اللبنانيين متفقون على تشخيص العوارض المميتة للمرض الحالي في لبنان بأمرين: النهب والفساد؛ وسبب هذه العوارض هو غياب الدولة، وسبب غياب الدولة سطوة الدويلة وسلاحها على مقدرات لبنان. لذلك لا يمكن معالجة المرض الحالي بالتصدّي للنتائج (فساد ونهب) أولاً وفقط؛ إنما بالبدء بمعالجة الأسباب التي أدّت إلى هذه العوارض، أي سلاح الدويلة الذي يصادر السيادة. لذلك فحكومة الإنقاذ يجب أن تكون سيادية أولاً لينبثق منها الإصلاح ثانياً.

 

بالمقابل إذا نجح “حزب الله” في استقطاب القوى التي تدّعي السيادة والتغيير، أو بعض منها، وشاركته في تأمين أغلبية نيابية تدور في فلك الإحتلال والفساد، فذلك يعني أن هؤلاء “التغييريين” غرّروا بناخبيهم ومارسوا عليهم التضليل للوصول إلى المجلس النيابي، ضاربين عرض الحائط بالمبادئ التي أوصلتهم إلى الندوة النيابية، متنازلين بذلك طوعاً عن استعادة السيادة وإنقاذ الدولة.

 

قد يعتبر اللبنانيون أن الجلسة الأولى التي عُقِدت في المجلس النيابي، إنتكاسة للتغييريين والسياديين الجدد، لافتقارهم إلى الخبرة في الحياة البرلمانية؛ لكنّ اختيار رئيس الحكومة السيادي كخطوة أولى أثناء الإستشارات المقبلة في المواجهة التي يخوضون، أمر سيادي بامتياز ولا بدّ منه. فالإمتحان قريب، إما أن ينجح التغييريّون ويؤكدون أهليتهم للوكالة الشعبية التي يحملون، أو يرسبون في أول امتحان جدّي لهم في اختيار رئيس حكومة إنقاذية، فيدفعون بذلك المواطنين الذين منحوهم الوكالة، للنزول إلى الشارع لمحاسبتهم عند أول استحقاق.