كلّ التطوّرات توحي بأنّ السعي قائم لتَعبر الحكومة المرحلة بما فيها من مطبّات بأقلّ الخسائر الممكنة. وإلى المواجهة التي تخوضها المؤسسات العسكرية والأمنية مع الإرهاب على الحدود وفي الداخل، تنهمك حكومة «استعادة الثقة» بتوفير المخارج لسلسلة من المآزق التي تُهدّدها، من آليّة التعيينات وأدوار الوزراء، وهو ما يهدّد باستنساخ تجربة حكومة «المصلحة الوطنية». كيف ولماذا؟
لا يتردّد أحد في الحديث عن تَعثّر الحكومة في مقاربة الملفات الكبيرة في ظلّ الخلافات التي تعصف بها والتي تعيد تشكيلَ الأكثرية الحكومية قياساً على حجم ونوعية القضايا المطروحة.
فإنِ التقت مجموعة بمعزل عن انتماءاتها السياسية الأساسية حول ملفّ ما، تراها تختلف في ملفّ آخر، من دون وجود كتلة وزارية تَحسم في هذا الاتجاه أو ذاك. وإن كان هذا الحسم متوفّراً بالتصويت في بعض المحطات يتريّث الطرفان بالمقياس عينِه بانتظار التوافق تحت شعار الميثاقية، وهو ما يعطّل إمكانية صدور الكثير من القرارات الملِحّة.
ولا يحتاج المراقبون الى تعداد الأمثلة على صحّة هذه المعادلة. فما رافقَ المرحلة التي عرِض فيها قانون الانتخاب من مناقشات تعطي ما يبرّرها بشكل فاضح، وكذلك في ملفات النفايات والكهرباء وآلية التعيينات الإدارية ومصير مشروع قانون الموازنة العامة وسلسلة الرتب والرواتب.
وهو ما دفعَ بقوّة إلى استذكار المراحل التي عاشتها حكومة «الوحدة الوطنية» التي حَكمت البلد 29 شهراً في ظلّ الشغور الرئاسي، وأرجَأت فيها العديدَ من الملفات الحيوية، الاقتصادية منها والبيئية والمالية والإدارية، الى أن لامسَت الملفات الخاصة بالمؤسسات العسكرية والأمنية.
ولا يمكن لأحد ان ينسى الأزمة المستفحلة التي عكسَتها طريقة تعاطي وزارة المالية يومَها مع المخصصات السرّية في المديرية العامة لأمن الدولة لأسباب سياسية وطائفية لا حاجة للتذكير بها.
وبعدما تجاوزَت الحكومة أزمة قانون الانتخاب بسلسلة من المخالفات التي حفلَ بها القانون الجديد وشكل التقسيمات الانتخابية التي خفّفت من بعض الهواجس «الميثاقية»، اضطرّت في ظلّ عجزِها عن مواجهة العديد من الملفات الى تجميدها في اجتماعها ما قبل الأخير.
وهذا ما حصَل في ملف إحالة عقود البواخر المنتجة للطاقة الى المديرية العامة للمناقصات رغم توفّرِ المخرج المؤقّت، بالإشارة يومها الى انّ وزير الطاقة في واشنطن ولا يمكن مقاربة الملفّ بغيابه عدا الحديث المتنامي عن تزوير أو تعديل في مضمون كتاب الإحالة من الأمانة العامة لمجلس الوزراء الى مديرية المناقصات والتي لو لم تطوّقها بالاتصالات العاجلة التي جرت في الخفاء لَفجَّرت أزمة حكومية لا تَحتملها التركيبة الحكومية الحالية أياً كانت التفاهمات السياسية التي تحميها.
وزاد الطينَ بلّة أن بدأت الحكومة، برغبة مزدوجة من «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر» دون سواهما، البحثَ في إلغاء الآلية الخاصة بالتعيينات الإدارية بعدما جمّدت مشاريع التعيينات في أكثر من مركز وموقع إداري وإعلامي، كخطوة لا بدّ منها لولوج مشاريع التعيينات في الأسلاك الدبلوماسية والقضائية والإدارية المجمّدة في الأدراج والتي تتنازَعها الأهواء الطائفية والمذهبية كما السياسية منذ ما قبلَ بداية العهد الحالي والتي لم ينجَح «الأقوياء» في إقرارها بالنظر الى حجم المطالب والشروط المتبادلة في ما بينهم والتي لم تتوفّر لها المخارج التي تُرضي الجميع.
وإلى احتمال وقفِ كلّ أشكال «المنافسة المشروعة» بين أصحاب الكفايات والمحظيين بنعمة المحسوبية في حال إلغاء الآلية المعتمدة في التعيينات الإدارية، لا يمكن تجاهُل فشلِ أهلِ الحكم في تجاوزِ أزمة تجميد وزارة المالية المخصّصات المالية السرّية لفرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي رغم ما يترتّب عليها من مخاطر أمنية في مرحلة هي الأخطر، دون تجاهل ما بنيَ عليها من مسلسل الإنجازات الأمنية التي عزّزت الاستقرار الأمني الذي تعيشه البلاد منذ فترة غير قصيرة.
وأمام مسلسلِ الوقائع هذه والتي يمكن الحديث عن أمثلة شبيهة لها في أكثر من وزارة ومؤسسة رسمية، كما هي حال مشروع قانون الموازنة للعام 2017 وسلسلة الرتب والرواتب والتعيينات والمناقلات في الجامعة اللبنانية على سبيل المثال لا الحصر، يبدو للبعض أنّ هناك حرباً شرسة بين الساعين الى تشكيل «سلطة قوية» كرَّس السعيَ إليها لقاءُ الأحزاب المشاركة في الحكومة، وآخرين لا يرون في السلطة الحالية ما يرضي طموحاتهم بالنظر الى عدم وجود برنامج مشترَك، وهم يعتبرون أنّ هذه الحكومة شُكّلت في مرحلة «ربط نزاع» بين هذه القوى بانتظار ما ستؤول إليه التقلّبات المنتظرة في المنطقة.
لذلك، يَعترف المراقبون بأنه وعَدا عن هذا الخلاف في النظرة إلى مستقبل ودورِ لبنان، يبدو أنّ «وثيقة بعبدا» التي يسعى البعض الى ترجمتها هي مجرّد مرحلة يتسابق فيها أطرافُها الى تعزيز شهوتِهم بالسلطة وتقاسمِ المواقع المميّزة في أكثر من قطاع حيوي لآجال محدودة وعلى مراحل، من بينها الانتخابات النيابية الربيعَ المقبل. وإلى ذلك التاريخ فلا يطالبَنّ أحدٌ بمنجزات، فهي من باب التكهّنات والأحلام.