ها قد عدنا إلى المربع الأول. لا حكومة تعمل. وهو أمر مرادف للفراغ الحكومي الذي امتد 13 شهراً قبل أن تتألف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي أصابها التجميد قبل أن يأتي فصل الشتاء القارس حين كانت ستتجمد بحكم الانتقال إلى كوما الانتخابات النيابية، التي ستجرى في نهايته.
فلا ما كان الرئيس ميقاتي يمنن النفس به سيتحقق. أي أن تنكب الحكومة على معالجة القضايا الحياتية الملحة من محروقات وكهرباء وطبابة… وأن تطلق التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وأن تلزّم أحد معامل الكهرباء بالتعاون مع الصناديق العربية، وأن يعقد مجلس الوزراء أكثر من اجتماع واحد في الأسبوع لاستلحاق ما فات لبنان خلال مرحلة الفراغ الحكومي من خطوات تساعد على انتشاله من الحفرة التي هو فيها. كان محيط ميقاتي يأمل بأن يكون بطلاً إنقاذياً في حال تمكن من بعض هذه الخطوات. ولا يبدو أن الأمر متيسر الآن.
وللتذكير، إذا كان ينفع، فإن ما يحصل اليوم من شلل للحكومة، مثلما حصل لحكومتي زعيم تيار “المستقبل” الأوليين في خلال العهد الرئاسي الحالي، هو الحجة الرئيسة التي أدت إلى ابتداع صيغة حكومة وزراء اختصاصيين وتكنوقراط مستقلين غير حزبيين لا تسميهم الأحزاب السياسية، حتى لا يكونوا بإدارتها وإمرتها، أثناء عملهم في مجلس الوزراء فيتم تعطيله، مثلما حصل لحكومتي الحريري مرات عدة. وهذه هي خلفية ما تضمنته مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته الأولى إلى بيروت في 6 آب 2020 حين قال بحكومة من هذا الصنف من الوزراء، على أن تدعمها القوى السياسية وتكون مهمتها عاجلة لمدة ستة أو ثمانية أشهر، تطلق عجلة الإصلاحات التي تدفع المجتمع الدولي إلى تقديم المساعدة المالية العاجلة، لتتشكل بعدها حكومة يعود فيها الأشاوس ويتربعون على كراسي الحكم. كان ماكرون يعتقد أنه بحكومة كهذه يمكنه أن يفوز بإنقاذ البلد من الانهيار، الواقع فيه حالياً، إلا أن ثبات الحزب على شرطه، ومعه عون، بالتسمية، خذل حسن نية الرئيس الفرنسي ومن اعتقد معه بإمكان نجاح صيغة من هذا النوع. هدف هذه الصيغة كان عزل التأزم السياسي عن المعالجات الإصلاحية والاقتصادية.
كانت صيغة “الاختصاصيين المستقلين غير الحزبيين” تفادت ما هو حاصل الآن، أي أن يربط وزراء اختصاصيون من المتحزبين حضورهم اجتماعات الحكومة بما يشترطون تحقيقه، وإلا لا إجتماعات للحكومة. والوجه الآخر لما هو حاصل يوضح لماذا رفض الثنائي الشيعي، ومن بعده سائر الفرقاء وفي طليعتهم الرئيس ميشال عون وفريقه، أن يسمي رئيس الحكومة المكلف، سواء السفير مصطفى أديب أو الحريري الوزراء الشيعة.
الثنائي كان يحتاط لمثل هذه اللحظة، فلا يدخل وزراء شيعة إلى جلسة مجلس الوزراء ويبقى مطلب إقالة المحقق العدلي في جريمة انفجار المرفأ أو إزاحته بطريقة من الطرق، خارج جدران القاعة، كي يجري التعاطي معه من قبل السلطة القضائية وحدها، كما يقول ميقاتي ووزير العدل تطبيقاً لمبدأ فصل السلطات الدستوري.
الثنائي كان يحتاط أيضاً لغيرها من الأمور التي يحتاج “حزب الله” إلى مواجهتها سواء لسبب محلي أو إقليمي، عبر موقف يتخذ في مجلس الوزراء، أو لشل عمل الأخير إذا لم يتم التجاوب معه فيه. هذا ما سبق أن حصل خلال مرحلة التناوب بين عون ومعه جبران باسيل والحزب على شل عمل الحكومة. وعلى رغم أن رئيس الجمهورية يرغب الآن في عقد جلسات للحكومة نظراً إلى الحاجة الملحة لاتخاذ قرارات ضرورية فيها، ومع أن محيطه يتحدث عن أنهم “واصلة معنا للمنخار من “حزب الله” فإنه وقع في الحفرة التي كان حفرها لغيره في السابق، حين عطل في مراحل معينة العمل الحكومي، بل هو أسقط حكومة لأسباب إقليمية في المواجهة بين المحور السوري الإيراني والمملكة العربية السعودية، مثلما حصل مع حكومة الحريري في 2010-2011 .
شل حكومة ميقاتي في وقت يتطلب التفاوض مع صندوق النقد الدولي كحاجة ملحة التئامها من أجل اتخاذ قرارات في سياق الحوار مع بعثته، هو عودة إلى القاعدة التي تقول: لا تحكمون من دون الأخذ برأينا، وإلا لا حكومة. وهو أمر يقود إلى البت في بعض القضايا خارج مجلس الوزراء، كما هو حاصل في شأن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية… وغيرها.
أما الظرف الخارجي الذي اقتضى شل الحكومة الحالية فهو يبدأ برفض الوجهة التي يسير فيها التحقيق العدلي في جريمة انفجار المرفأ، ولا ينتهي عند اشتداد مزاحمة الولايات المتحدة الأميركية النفوذ الإيراني في لبنان، بحيث تتجمد اجتماعات مجلس الوزراء أثناء زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند إلى بيروت في 13 و 14 تشرين الأول، في اليوم نفسه لتظاهرة الطيونة.