كان الاعتقاد أنّ الحكومة الثانية في عهد الرئيس ميشال عون ستختلف عن الأولى من منطلق كونها «الخرطوشة الأخيرة» لتحقيق الإنجازات المطلوبة بعد تسعة أشهر من الفراغ وتراجع ثقة الناس إلى ما دون الصفر، ولكنّ التعثّر بدأ منذ الجلسة الأولى ويتواصل فصولاً.
في الوقت الذي كان يفترض أن يكون الوزير جبران باسيل الأحرص على تصفير المشكلات والتبريد إفساحاً في المجال أمام انطلاقة صاروخية للحكومة كما كان يتمنى رئيسُها سعد الحريري، فإذ به يلجأ إلى التسخين في ثلاثة ملفاتٍ خلافيّة ويتهيّأ لطرح الملف الرابع من المربع الخلافي نفسه، أي الكهرباء.
وأيُّ نظرة سريعة الى الملفات الخلافية المرتبطة بالنازحين والتطبيع والإبراء المستحيل تُظهر أنها من الفئة نفسها وتخدم النظام السوري و«حزب الله» في مواجهة القوى الأخرى، وتحديداً الحريري، الأمر الذي دفع اوساط سياسية مواكبة ومطلعة إلى وضع هذا التصعيد في أربع خانات سياسية:
ـ الخانة الأولى، مقايضة التراجع عن التصعيد في الملفات الثلاثة مع الحريري مقابل موافقته على خطة الكهرباء التي ستُعرض في الأسبوعين المقبلين.
ـ الخانة الثانية، إثارة الغبار السياسي التصعيدي بغية إمرار ملف الكهرباء بالاتفاق مع الحريري.
ـ الخانة الثالثة، الاشتباك مع الحريري إرضاءً للنظام السوري و«حزب الله» الذي لا يبدي ارتياحاً الى العلاقة بين الرجلين، فقرّر باسيل تطمين الحزب على حساب علاقته بالحريري.
ـ الخانة الرابعة ترتبط بشخصية باسيل المتقلبة والتي لا ترسو على برّ وموقف وتنتهج التصعيد أسلوباً والاشتباك هدفاً، والاشتباك يتم على طريقة خبط عشواء وليس انطلاقاً من اتجاه وطني أو سياسي ثابت.
وأما الكلام التهويلي لباسيل باستعداده الاستغناء عن الحكومة فيندرج في سياق «البهورة» السياسية لا أكثر، لأنه يدرك تماماً أنّ استقالة الحكومة تعني أن لا حكومة طوال عهد عون، وأنّ البلد يتّجه الى الانهيار، ما يجعله يصطدم بـ«حزب الله» الذي يتفادى هذا السيناريو كونه يضع لبنان تحت الوصاية الدولية، وإذا كانت الحكومة الحالية قد استغرقت كل هذا الوقت لتأليفها، فماذا عن أيّ حكومة جديدة؟ وماذا تبدّل في الظروف والمعطيات ليتمكن من تشكيلها وفق شروطه؟ والمتضرر الأول من هذا السيناريو سيكون العهد.
ومن الواضح أنّ عنوان المرحلة لباسيل هو الكهرباء، وما زال مصرّاً على إمرارها تبعاً لوجهة نظره، فقرّر فتح أكثر من جبهة دفعة واحدة في محاولة لإمرار ملف الكهرباء تحت وابل التصعيد السياسي، ولا حاجة للقول إنّ هذا الملف لن يمرّ إلّا وفق ما تقتضيه مصلحة البلد، وسيتفاجأ بالمعطيات التي ستوضع على طاولة مجلس الوزراء، وسيكون موقف «حزب الله» الذي وضع الإصلاح والفساد أولوية على المحك، فيما التصعيد في الملفات الأخرى سيواجه بالطريقة نفسها، والمتضرر الأول من هذا الأسلوب هو العهد الذي تكمن مصلحته في التبريد والتهدئة والاستقرار والانتظام لتعويض ما فات وإنجاز ما يمكن إنجازُه.
فأين مصلحة باسيل مثلاً في الاصطفاف الى جانب «حزب الله» في معركته ضد الرئيس فؤاد السنيورة، على رغم أنّ الحزب قال إنّ السنيورة غير مقصود، فيما باسيل أصرّ على القول: «كتبنا الإبراء المستحيل حتى أصبح قانوناً وسنرفع الغطاء المذهبي عن الفساد»، فهو يقول بهذا المعنى إنّ معركة «الإبراء المستحيل» لن تكون سنّية – شيعية كونه سيوفر الغطاء المسيحي للحزب من أجل استكمالها. فأين مصلحته في التذكير بالمرحلة التي كانت فيها العلاقة بين «التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل» في أسوأ مراحلها؟ وما الرسالة التي أراد توجيهها ولمَن: للحريري أم للحزب؟
وأين مصلحة باسيل في إحياء الاشتباك في ملف التطبيع ووصفه الكلام عن التطبيع بـ«الكذب الذي يجب إيقافه كون العلاقة مع الدولة السورية غير مقطوعة ولا تحتاج إلى تطبيع؟». باسيل يدرك أنّ ملف العلاقة مع النظام السوري في طليعة الملفات الخلافية، ولا يحق له أن يفرض وجهة نظره على الآخرين الذي يمثلون نصف المجتمع، بل أكثر بكثير، والعكس صحيح، وهذا في المبدأ، وأما في الجوهر، فالعلاقة بين البلدين قائمة والتنسيق موجود ولا حاجة عملية الى تطويرها أكثر بغية أن يتمكّن باسيل من لقاء الأسد من دون معارضة داخلية وغطاء رسمي، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق لأنّ عودة العلاقات الى طبيعتها شرطها الأساس استعادة سوريا مقعدها في جامعة الدول العربية ورفع الحظر الدولي عنها وإجراء مراجعة للعلاقة بين البلدين، فلا يمكن القبول بعودة العلاقة وكأنّ شيئاً لم يكن، فيما هذا النظام يدعم فريقاً لبنانياً في مواجهة فريق آخر ويتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية ويتحيّن الفرصة للعودة الى لبنان ولم يتخذ التدابير القضائية في حق مَن حاول تفجير لبنان، عدا عن أن لا مصلحة بتعريض علاقات لبنان مع المجتمعين العربي والدولي بغية مسايرة الاعتبارات الرئاسية لهذا الشخص أو ذاك.
وأين مصلحة باسيل في تجديد الاشتباك حول ملف النازحين على رغم معرفته أنّ عودتهم غير ممكنة بعلاقة ثنائية بين لبنان والنظام السوري يريدها لاعتبارات سياسية، ولو كانت كذلك لكانت تمت العودة منذ سنوات، فيما هذا الملف موضوع على طاولة المجتمع الدولي الذي يتوقف عليه تمويل العودة المُتعذّر أن يموّلها النظامان السوري والإيراني، وهذا في حال تمّ التسليم أنّ نظام الأسد يريد إعادة النازحين، فيما جميع الموفدين الدوليين يتحدثون عن العراقيل التي يفتعلها هذا النظام لمنع العودة؟ فالمعبر الفعلي الى حلّ أزمة النازحين هو من طريق المجتمع الدولي وليس عبر علاقة ثنائية غير قادرة على إعادة أكثر من بضع مئات.
وقد توقعت أوساط مطلعة أن يستمرّ التعثر فصولاً، حيث إنّ كل المؤشرات تدلّ على أنّ التصعيد سيكون سيّدَ الموقف، خصوصاً في ظلّ استعجال يبديه باسيل بإرضاء نظام الأسد و«حزب الله» ما زالت أسبابه غير مفهومة، فضلاً عن أنّ «المكتوب يُقرأ من عنوانه»، فإذا كانت البداية على هذا النحو، فإنّ ما تنتظره الحكومة لن يكون أفضل حالاً من تجربة الحكومة الأولى، بل أسوأ كون باسيل يعتبرها الخرطوشة الأخيرة، وبالتالي يجب توقع أيّ شيء بدءاً من الآن في الاشتباك مع الجميع دفعة واحدة حيناً ومداورة أحياناً، وكل ذلك تحضيراً للمرحلة المقبلة.
وفي مطلق الحالات، التصعيد الأخير لباسيل ليس بريئاً ولا عفوياً، فإما يرمي الى محاولة إمرار التعيينات والكهرباء، وإما محاولة فرض أمر واقع في العلاقة مع النظام السوري، وفي الحالين المتضرّر الأكبر هو باسيل ومن خلفه ربطاً بالعهد ورصيده، فيما كان في استطاعته إبعاد الملفات الخلافية عن سطح الأحداث، والتركيز على الملفات الحيوية على أساس معايير وآليات قانونية.
ويجب على باسيل أن يقرأ بتمعّن ردّ فعل «المستقبل» الفوري على مواقفه الانتقادية وبسقف مرتفع جداً، الأمر الذي يعني أن لا فترة سماح ولا مسايرة ولا غضَّ نظر وتطنيش، بل ردّ فعل على قاعدة «الرطل بدّو رطل ووقية»، كما أنّ على باسيل أن يقرأ جيداً معاني عودة السنيورة الى المقدمة والمصالحة مع اللواء أشرف ريفي وعودة العلاقة مع السعودية الى حقبتها الذهبية، وكل هذه العناصر وغيرها من الثقة الدولية بالحريري الى علاقاته المحلية تشكل تحصيناً للحريرية السياسية وعامل توازن كبيراً مع عون واستطراداً «حزب الله» لا يجب الاستخفاف بها، والحريري في الحكومة الثانية للعهد غيره في الحكومة الأولى، وما على باسيل إلّا التبصُّر.