وسط هذا الوضع الداخلي اللبناني المملّ والمعطّل، يبدو أفق المنطقة من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن مغرقاً في الفشل الذريع للسياسات الدولية والإقليميّة والعربيّة والمحليّة، وهذا «التنتيع» الداخلي تحت مسمّى الحوار هو أشبه بلعبة «إملأ الفراغ بالكلمة المناسبة»، هو أشبه بـ»حزورة» لا إجابة لها، وكلّنا منخرطون في لعبة محاولة العثور على إجابة تقودنا إلى المشهد النهائي الذي لم يتظهّر بعد، ولا يبدو أنّ تظهيره قريب فاللعبة الدمويّة مستمرّة تستنزف المنطقة ودماء شعوبها، والمعسكريْن اللذيْن يحتلان المشهد يدعيان أنهما يواجهان المؤامرة الكبرى، وما بين الملف النووي الإيراني ومفاوضاته، أو مشروع تقسيم المنطقة، لا يحسد المواطن اللبناني ولا العربي على أحواله السقيمة، فحال المنطقة لا يسرّ العدوّ ولا الصديق!!
منذ سقوط العراق عام 2003 والحديث الأميركي يدور عن «الشرق الأوسط الكبير» ورحل جورج دبليو بوش ومعه منظّريه لهذا العنوان المطّاط الذي قابله وهم إمبراطوري فارسي حمل عنوان «الشرق الأوسط الإسلامي (الإيراني) الكبير»، وهذا العنوان حاله أسوأ من حال العنوان الأميركي، فإيران الدولة المحاصرة والجائعة تدّعي لنفسها عِظَمَ القوّة إلى حدّ فرض سيطرتها على المنطقة برمّتها والتحكّم بمصيرها، ومع هذا تلاشى الحديث عن هذين الشرقيْن وسط حروب الجملة والمفرق التي نشهدها وبات القتل هو المألوف الأول ليومياتنا القاتلة!!
لطالما استغرقنا التنظير لتقسيم المنطقة إلى دويلات، واستغرقنا في تحليل ما اصطلح على تسميته حدود الدم، ولكن إلى أيّ مدىً هذه الحدود حقيقيّة كاتفاق سايكس ـ بيكو القائم حتى الساعة، وإلى أيّ حدٍّ «خارطة حدود الدم هذه هي حقيقة مطلقة يجري تطبيقها على قدم وساقٍ في أنحاء المنطقة؟!
إقتراحات.. مجرّد اقتراحات.. ما اجتهدنا في تحليله سابقاً لا يعدو كونه مجموعة اقتراحات، وقد أسهمنا جميعاً في تحويلها إلى «قدرٍ مقدورٍ» لمنطقتنا.. ومن دون شك للكاتب «عيسى القدومي» فضل في تظهير الصورة الحقيقيّة لـ»حدود الدم» عبر دراسته «الشـرق الأوسـط الجـديد.. هـل حـان وقتـه؟!»، ففي عدد تموز 2006 من مجلة القوات المسلحة الأميركية نشر الضابط الأميركي السابق «رالف بيترز» مقالة بعنوان: «حدود الدم» وهي جزء من كتابه: «لا تترك القتال أبدا»، وفي هذه المقالة يعتبر «رالف بيترز» الصراعات الشرق أوسطية والتوتر الدائم في المنطقة نتيجة منطقية لخلل كبير في الحدود الاعتباطية الحالية التي وضعها «الأوروبيون الانتهازيون».
وينطلق «بيترز» من فرضية «أن الحدود الدولية لا يمكن أن تكون عادلة بشكل كامل»، ولكن حجم الظلم الناتج عن ذلك يحدد الفرق بين ما يسميه: الحرية والقمع، التسامح والوحشية، الشرعية والإرهاب أو الحرب والسلم(…) وأن الحدود غير المنصفة في الشرق الأوسط تولد اضطرابا أكبر مما تستطيع المنطقة تحمله. صحيح أن الشرق الأوسط يعاني من مشكلات متعددة مثل الركود الثقافي والظلم الاجتماعي والتطرف الديني ولكن مفتاح فهم الفشل الكبير في المنطقة، كما يقول، ليس الإسلام بل الحدود القائمة بين دول المنطقة والتي لا يزال الحديث عنها محظوراً».
ورغم اعتراف «رالف بيترز» بأن المجموعات الإثنية والدينية في الشرق الأوسط مارست الاختلاط والتعايش والتزاوج ولكن لابد من إعادة رسم الحدود لإنصاف الإثنيات الموجودة، ويذكر قائمة طويلة بهذه المجموعات من منظور إثني وتصنيف ديني أو طائفي، ويذكِّر بيترز أولئك الذين لا يريدون إعادة ترتيب الحدود باعتباره نوعاً من «التفكير بالمستحيل» يذكرهم »بالتطهير العرقي« السائد منذ خمسة آلاف عام من أجل العودة إلى ما يسميه: «حدود الدم».
* غداً: «لبنان الكبير المتوسطي والعودة إلى الدولة الفينيقية»