الواضح انّ الجواب اللبناني الرسمي الذي حمله وزير الخارجية الى الكويت لن يؤدي الى صدور موافقة خليجية، وبالتالي طي صفحة المطالب التي كان أتى بها وزير الخارجية الكويتي الى لبنان. فالمسألة أبعد بكثير من تسطير جواب عن الأسئلة المطروحة، خصوصاً ذلك المتعلق بالقرار 1559. فلبنان الرسمي يدرك جيداً انّ الورقة هي بداية مرحلة جديدة من التعاطي الخليجي مع لبنان تحت سقف المتابعة الاميركية. ولكن قد تكون السلطة اللبنانية تأمل بأن تسهم أجوبتها الديبلوماسية لا العملية، في التخفيف قدر الإمكان من حدّة الموقف الخليجي لاحقاً.
وخلال صياغة الأجوبة المطلوبة كان التفاهم بين رئيس الجمهورية ورئيسي المجلس النيابي والحكومة، على انّ لبنان لا يستطيع رفض الورقة ولا حتى أي بند من بنودها، وأيضاً عدم الالتزام بتطبيق مضمونها، خصوصاً ذلك المتعلق بسلاح «حزب الله». لذلك حصل التشاور على أساس التعاون لإيراد جواب ديبلوماسي ظاهره إيجابي، ولكن فيه الكثير من التلاعب على الكلمات على الطريقة اللبنانية، وفق ما كان يحصل دائماً عند صياغة البيانات الوزارية.
من هنا جاءت الصيغة القائلة «باستكمال تطبيق قرارات الشرعية الدولية، مع الحرص على عدم تعريض السلم الأهلي للخطر»، وذلك كردّ على البند المتعلق بالقرار 1559 ومن دون ذكره بصراحة في الردّ الجوابي.
وفي المقابل، أبدى لبنان جهوزيته للقبول بفريق عمل أمني مشترك لمكافحة تهريب المخدرات الى دول الخليج.
لذلك، لا يتوقع احد في لبنان اكتفاء خليجي بالأجوبة اللبنانية، وبالتالي استعادة العلاقات الطبيعية التي كانت قائمة سابقاً. بل ربما عدم الذهاب أبعد في المسار الصدامي، خصوصاً انّ الخلفية التي تستند اليها الورقة الكويتية لها علاقة بالمرحلة السياسية الجديدة التي تستعد المنطقة للدخول اليها. ومن هنا المواكبة الاميركية لورقة المطالب الكويتية، ولو انّ واشنطن اكتفت بالموافقة عليها من دون ان تشارك في صياغة بنودها. فالحماوة ارتفع منسوبها في ساحات الشرق الاوسط، مع ظهور بشائر الاقتراب من التفاهم الاميركي – الإيراني حيال الملف النووي.
وعندما دخل جو بايدن الى البيت الابيض كان قد قرّر ان يُشرك ملفي الصواريخ البالستية الايرانية والمجموعات الموالية لإيران في الشرق الاوسط في المفاوضات حول النووي، وآملاً في الوقت نفسه بمفاوضات سريعة. ولكن ما حصل لاحقاً كان مغايراً لآمال بايدن. فالجانب الايراني المشهود له ببراعته في فنون التفاوض وصاحب الباع الطويل في الأخذ والرد، تمسك بقراره بالتركيز فقط على الملف النووي.
والآن، ومع المشارفة على الانتهاء من مفاوضات النووي، فإنّ من الواضح انّ مرحلة جديدة توشك ان تبدأ، وهي المتعلقة بإعادة رسم الخارطة السياسية للشرق الاوسط تحت سقف التفاهم النووي.
ليس بقليل ما يحدث من تطورات في المنطقة. فالرئيس الاسرائيلي اسحاق هرتسوغ يزور الإمارات في اول زيارة رسمية لرئيس اسرائيلي، وبعد ايام قليلة على استهداف العاصمة الإماراتية بصواريخ حوثية. وتريد الإمارات عدم ترسيخ معادلة جديدة وقواعد تعامل على أساس الاعتياد على استهداف اراضيها بالصواريخ. وهذا ما يفسّر الردّ العنيف الذي استهدف مناطق الحوثيين في اليمن من قِبل طائرات التحالف. والأهم انّ اسرائيل تتوقع زيارة ولي عهد الإمارات الامير محمد بن زايد اليها تلبية للدعوة التي حملها هرتسوغ اليه.
طائرة الرئيس الاسرائيلي كانت قد مرّت في اجواء السعودية، وتعمّد الإعلام الاسرائيلي نقل «تأثر» هرتسوغ لدى مشاهدته للصحراء السعودية من قمرة طائرته. والرئيس الاسرائيلي يستعد ايضاً لزيارة قريبة الى تركيا تلبية لدعوة من نظيره التركي اردوغان، الذي اعتبر أنهّا ستكون فاتحة لتعاون اقتصادي في المنطقة.
وسط هذه الاجواء، تتحرّك دول الخليج باتجاه لبنان، البعض يضع التحرّك في إطار التوازن بين اليمن ولبنان، والبعض الآخر يذهب الى تنسيق الادوار بين دول الخليج وواشنطن حيال وجوب تحجيم «حزب الله» من خلال تقييد حركته العسكرية.
اذاً، هي في الحسابات الخليجية تدخل في إطار رفع مستوى الضغوط على «حزب الله»، طالما انّ مرحلة إعادة ترتيب اوراق المنطقة قد بدأت او تكاد.
وهي المرحلة التي استوجبت إخراج الرئيس سعد الحريري من ساحة العمل السياسي في لبنان، وبالتالي وضع سياسة المهادنة او على الأقل منع التصادم التي اتبعها جانباً. وكما التذكير الدولي الدائم بوجوب إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها وتحت طائلة المحاسبة الدولية الصارمة للمعرقلين، فإنّ الورقة الخليجية خصّصت بنداً لهذا الامر. وبخلاف بعض الآراء التي سادت إثر اعلان الحريري خروجه من الحياة السياسية، والتي اعتبرت انّ خطوته ستؤدي الى تأجيل الانتخابات النيابية، فإنّ بعضاً من التدقيق يُظهر الحرص على إجراء الانتخابات وليس العكس. فالحريري والذي أعلن عن خطوته بتأثير خليجي واضح، فهو لم يتقدّم باستقالته ولا طلب ذلك من أعضاء كتلته النيابية، ولا طالب حتى بمقاطعة الانتخابات المقبلة، بما يعني انّه كان هنالك حرص على خطوة مدروسة تدفع الشارع السنّي باتجاهات جديدة ومن دون التأثير سلباً على الاستحقاق النيابي. أضف الى ذلك، موقف الرئيس ميقاتي من دار الفتوى. وإذا كان من المفترض انتظار الخطوة السعودية التالية على الساحة السنّية، لناحية الأسماء البديلة التي ستظهر، ودراسة سلوكها السياسي، فإنّ «الهجمة» التي حصلت باتجاه القاعدة الشعبية لـ«المستقبل» لم تعطِ ثمارها، وبدت انّها تفتقد للغطاء المطلوب. فالبيان الذي أذاعه بهاء الحريري والذي تضمن إيحاءً بوجود توافق عائلي لإلباسه «العباءة»، سرعان ما تبدّد، لا سيما مع موقف رئيس المركز الاسلامي للدراسات والإعلام في بيروت والتابع لدار الفتوى الشيخ خلدون عريمط، الذي قال انّ الشارع هو الذي يقرّر ما إذا كان بهاء الحريري قادراً على الحلول مكان سعد الحريري. واعتبر انّ بهاء لم يُقدم على اي شيء على الارض، او يؤكّد اذا كان بمقدوره ان يلعب هذا الدور اولاً، ومستبعداً ان يتمكن بهاء من استكمال مسيرة والده من خارج جمهور «تيار المستقبل».
اما «هجمة» القوى المسيحية على اختلافها وتنوعها، فبدت مصطنعة وأدّت الى ردّة فعل عكسية في الشارع السنّي، بما يشبه إقفال الساحة امامها.
في كل الاحوال، لا بدّ من انتظار عودة الرئيس الحريري في ذكرى 14 شباط، حيث سيزور ضريح والده، وقد تكون له كلمة في المناسبة، أو توجيه ما، في وقت يتحضّر العديد من نوابه لترتيب لوائح سيكون لونها أزرق ولو من دون ان تحمل علم «تيار المستقبل». رغم انّ بعض الهمسات بدأت تصدر حول إمكانية الضغط على الحريري لعدم عودته في ذكرى اغتيال والده.