مع دخول المحكمة مرحلةً جديدة تحت عنوان الاستماع إلى إفادات الشهود السياسيين التي ستُحيي الظروفَ التي أدّت إلى اغتيال الشهيد رفيق الحريري، برَز تساؤلٌ أساسيّ حول مدى انعكاس هذا التطوّر وتأثيره على المساكنة الحكومية.
تتقدّم المحكمة إلى صدارة الاهتمامات اللبنانية وتتراجَع تبعاً لمسارها القضائي، حيث إنّ قلّة من الناس تتابع التفاصيل التقنية والإفادات المتصلة بها، فيما معظم الناس يترقّبون الإفادات السياسية من قِبَل وزراء ونوّاب وإعلاميين عايَشوا حقبة الوصاية السورية، وتشكّل مجرّدُ إطلالتهم انقساماً بين اللبنانيين، ولكن في الحالتين المحكمةُ مستمرّة وتقوم بعملها، والمتغيّر الوحيد هو اهتمامات الرأي العام.
وأثبتَت كلّ الظروف أنّ مسار المحكمة منفصل عن أيّ مسار سياسي داخلي أو خارجي، بدليل إطلاقها الضبّاط الأربعة عشيّة انتخابات العام 2009، في خطوة تنعكس سلباً على قوى 14 آذار، ولكنّ المحكمة لم تهتمّ حينذاك لانتخابات أو غيرها، وكلّ كلام مشكّك بصدقيتها لا يخرج عن إطار التحامل عليها لأهداف مكشوفة تتّصل بالخشية من مؤدّياتها لجهة كشفِها كلّ التفاصيل والوقائع المرتبطة باغتيال الحريري.
فاتّهام النظام السوري اليومَ بالاغتيال يختلف عن اتّهامه قبل الثورة السورية، لأنّ هذا الاتّهام لن يضيفَ شيئاً على الاتهامات الدولية له بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية بحقّ شعبه.
فمِن البديهي إذاً لدى بروز أيّ تطوّر على مستوى المحكمة أن يتأهّب الفريق المتّهم ويعمَد إلى شيطنتِها وأسرلتِها، الأمر الذي يعيدُها مادةً سجالية تذكّر بالمراحل الأولى التي أعقبَت إطلاقها، لأنّ هذا الفريق لن يفسحَ في المجال أمام المحكمة والفريق المؤيّد لها بأن يستأثرا بالمناخ الإعلامي، فيعمد إلى رفع الغبار عن نظرياته الخشبية التي تضع المحكمة في سياق المؤامرة المعهودة.
فعلى رغم التفاصيل التي سترِدُ في إفادات الشهود، وعلى رغم تأثير استحضار حقبة دموية على النفوس المشحونة أساساً، يبقى الأكيد أنّ الأمور لن تتجاوز السجال السياسي، ولن يكون لها أيّ انعكاس على مسار العلاقات الداخلية، من المساكنة الحكومية إلى الحوار المرتقَب بين «حزب الله» وتيار «المستقبل»، وذلك للأسباب الآتية:
أوّلاً، يدرك «حزب الله» أنّ مسار المحكمة هو مسارٌ طويل، وأنّ ما يجري اليوم هو محطة من هذه المحطات، وبالتالي طالما إنّ الحكم ما زال بعيداً جداً يعني هذا أنّ المحكمة لم ترتقِ بنظره بعد إلى مرتبة الأولوية التي تتطلّب منه التعاملَ معها على هذا الأساس.
ثانياً، أولوية الحزب هي استمرار الحكومة التي تشكّل في نظره أداةً أساسية لمواجهة المتطرّفين السُنّة وإبعاده عن خط الاشتباك السنّي-الشيعي المباشر.
ثالثاً، لن يتردّد الحزب في تطوير العلاقة مع «المستقبل» أو الدخول معه في حوار من أجل تدعيم عمل الحكومة على المستوى الأمني.
رابعاً، مجرّد موافقة «حزب الله» و»المستقبل» على تأليف حكومة مشتركة، يعني أنّهما قرّرا سَلفاً فصلَ مسار المحكمة عن المسار السياسي في لبنان، لأنّ كليهما يعلم جيّداً أنّه لا يمكنه التأثير على مجرياتها، فيما خلاف ذلك كان يفترض أن يقود إلى عدم تأليف حكومة مساكنة. ولذلك، ما يحصل هو مرتقَب ومنتظر وتمَّ التحسّب له مسبقاً.
خامساً، إستباقُ الوزير نهاد المشنوق جلسات المحكمة بالتعبير عن تخوّفه من الانعكاس السلبي لشهادات الشهود على الوضع الداخلي يشكّل رسالة من «المستقبل» إلى «حزب الله» بأنّه ضنين على استمرار الحكومة والوضع الذي نشأ في أعقابها.
سادساً، إستمرار الحكومة يشكّل مصلحةً استراتيجية وحيوية لتيار «المستقبل»، لأنّ انهيارها يقوّي التطرّف السنّي على حساب الاعتدال، والتجربة التي سبقَت قيامَ هذه الحكومة أكبرُ دليل على ذلك.
وعليه، المشهد في لاهاي منفصل تماماً عن المشهد في بيروت، إذ في الوقت الذي تُعيد فيه المحكمة الاعتبارَ لجوهر المشكلة بين اللبنانيين والقائمة على خيارات وطنية كبرى أفضَت إلى استخدام التصفية الجسَدية كوسيلةٍ لحسمِ الصراع، تنأى الحكومة بنفسها عن الملفات الخلافية وحتى السياسية العاديّة.
ولكنّ عدم تأثير مسار المحكمة على مسار الحكومة لا يعني إطلاقاً التقليل من أهمّية ما يحصل في لاهاي لناحية أنّها المرّة الأولى في تاريخ العالم العربي التي يتمّ فيها إنشاء محكمة دولية أوّلاً، ويُعمَل ثانياً على تشريح مرحلة تاريخية أفقدَت لبنان استقلالَه واستجلبَت التدخّلات الخارجية وقادت إلى اغتيالات سياسية الهدفُ الأساسيّ منها إبقاءُ لبنان تحت الوصاية، الأمر الذي يجعل أهمّية المحكمة مزدوجة: وضع حَدّ للجريمة السياسية، وتأريخ حقبةٍ سوداء من تاريخ لبنان، وذلك تمهيداً لمصالحة فعلية تُعيد لبنان دولةً طبيعية.