بعد عشرة أيام على اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وصلت إلى لبنان بعثة التحقيق الدولية برئاسة المحقق بيتر فيتزجيرالد ليبدأ مسار العدالة الدولية نيابة عن العدالة اللبنانية. منتصف ايار المقبل ستصدر المحكمة الدولية حكمها في هذه القضية التي باتت كل معطياتها وظروفها معروفة ومعلنة فهل سيتحقق مع صدوره المبدأ الذي أنشئت من أجله المحكمة وهو تحقيق العدالة وعدم الإفلات من العقاب؟
ليس من قبيل الصدف أن تنشأ المحكمة الدولية بموجب القرار 1757 الذي أصدره مجلس الأمن الدولي في آخر أيار 2007 وأن يتمّ تحديد موعد صدور الحكم في منتصف ايار 2020. خمسة عشر عامًا تفصل بين تاريخ الإغتيال وبين النطق بالحكم ليست مدة طويلة في مسار العدالة الدولية التي وصلت في النهاية ولو تأخرت كثيراً بينما كان الكثيرون يتوقعون لها أن تفشل وأن تسقط وأن تبقى القضية مقيّدة ضد مجهول.
البديل عن العدالة اللبنانية
عندما قرر الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان تكليف المحقق بيتر فيزجيرالد ترؤس لجنة تقصي حقائق دولية للتحقيق في ظروف اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان العالم كله يدرك أن هذا الإغتيال أكبر من أن تتولى التحقيق به الأجهزة الأمنية والقضائية اللبنانية الخاضعة كليًّا لعهد الوصاية السورية. وكان العالم يدرك مسبقًا الظروف التي أحاطت بعملية الإغتيال. فمنذ أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1559 الذي طلب خروج القوات السورية من لبنان ونزع سلاح “حزب الله” بدأ لبنان يدخل عمليًا تحت الوصاية الدولية لمساعدته على استعادة سيادته. ومنذ وصل إلى لبنان تيري رود لارسن الموفد الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لتنفيذ ذلك القرار دخل في وحول السياسة اللبنانية وفي تسلّط النظام السوري على الواقع اللبناني بكلّ تفاصيله وألمّ بما حصل مع الرئيس رفيق الحريري وكان على اطلاع على ظروف تهديد رئيس النظام السوري له بالقتل إذا لم يوافق على التمديد للرئيس أميل لحود. كانت ظروف الجريمة واضحة قبل حصولها ولذلك كان لا بد من أن يتابع مجلس الأمن الدولي الموضوع باعتباره مكمّلاً لحيثيات وظروف استكمال تنفيذ القرار 1559. ولذلك أدرك المجتمع الدولي سريعاً خطورة السرعة التي بادرت فيها أجهزة الأمن اللبنانية لإزالة معالم الجريمة ومسح الآثار والأضرار ومتابعة الحياة السياسية وكأن شيئًا لم يحصل.
منذ اللحظة الأولى التي وقف فيها فيتزجيرالد فوق الحفرة التي أحدثها الإنفجار الكبير قرب أوتيل السان جورج وسط بيروت كان مدركاً أن اغتيال الحريري مرتبط بقرار كبير خصوصا أن فرنسا وأميركا كانتا على اطلاع على الظروف التي ولد فيها القرار 1559 والتهديدات التي تلقّاها الحريري وأن الرئيس الفرنسي جاك شيراك عمل على الحصول على ضمانات من رئيس النظام السوري بشّار الأسد بعدم الإعتداء على الحريري. ولكنّ تلك الضمانات لم تلغِ القرار الذي كان قد اتخذ خصوصا أن قراءة المرحلة وتداعياتها كانت بدأت منذ محاولة اغتيال الوزير مروان حماده في أول تشرين الأول 2004.
لم يتأخر فيتزجيرالد في التحقيق والخروج بخلاصات أوليّة تشير إلى خطورة عملية الإغتيال وربطها بالنظام السوري وبـ”حزب الله” اللذين كانا مستهدفين بالقرار 1559 لأنّه منذ تاريخ صدوره بدأ الإعداد لاغتيال حماده ثم لاغتيال الحريري. الإحتياطات الأمنية التي كانت تطبق حول الرئيس الحريري هي التي جعلت محاولة اغتيال حماده تسبق اغتياله لأن حماده لم يكن يحيط نفسه باحتياطات مماثلة.
من ميليس إلى بلمار
نتيجة تقرير فيتزجيرالد أدّت إلى قرار مجلس الأمن بتشكيل لجنة التحقيق الدوليّة الخاصة وتعيين المحقق الألماني ديتلف ميليس رئيساً لها. تعرض التحقيق لعرقلة كبيرة ولكنه تمكّن من اجتياز عقبات كثيرة ومن إنشاء مقر للجنة في منطقة المونتيفردي في جبل لبنان ومن إجبار النظام السوري على إلإنصياع لطلبات اللجنة بالتحقيق مع عدد من ضباطه ومسؤوليه المشتبه فيهم وتمكن أيضا من كسر شوكة الأجهزة الأمنية اللبنانية التي كانت تمسك بمفاصل الحياة السياسية في لبنان خصوصًا بعدما أُجبِر قادة هذه الأجهزة على تقديم استقالاتهم تحت ضغط انتفاضة 14 آذار قبل أن يتم توقيفهم من أجل إزالة عامل الخوف الذي كان يسيطر على لبنان وإتاحة المجال أمام جمع الأدلّة بحرية أكبر، ولتمكين من يملك معلومات من الإدلاء بها من دون خوف. ترافق هذا الأمر مع تبدل الموازين السياسية في الداخل لمصلحة قوى 14 آذار وتشكيل الحكومة الأولى التي ترأّسها الرئيس فؤاد السنيورة لترافق مراحل تطبيق العدالة الدوليّة بينما كانت عمليات الإغتيال مستمرة وتستهدف عدداً من قيادات قوى 14 آذار من دون أن تتمكن من وقف مسار هذه العدالة. بعد ميليس الذي كان أصدر تقريره الأول تم تعيين المحقق البلجيكي سيرج براميرتس رئيساً للجنة التحقيق ليتابع ما كان بدأه ميليس ولسدّ بعض الثغرات التي شابت التحقيقات الأولية. في 11 كانون الثاني 2006 بدأ براميرتس عمله قبل أن ينتقل الملف إلى الكندي دانيال بلمار الذي أمسك التحقيق بقبضة حديدية مع التقدّم نحو توجيه التهمة إلى عناصر تنتمي إلى “حزب الله”.
وسام عيد ووسام الحسن
في هذا المسار القضائي كان هناك ضابط لبناني في قوى الأمن الداخلي يدعى وسام عيد تمكن من فك لغز الإتصالات الهاتفية وحصر الشبكات التي تواصلت في خلال التحضير لعملية الإغتيال وحدّد هويّات الأشخاص الذين استعملوها. عندما توصّل عيد لاستنتاجاته الأولية التقى رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللواء وسام الحسن مسؤولين قياديين في “حزب الله” وأطلعهم على مسار هذه التحقيقات وأنها تشير إلى ضلوع منتمين للحزب بالإغتيال ولكن الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله نفى هذا الأمر كليًا. في 25 كانون الثاني 2008 تم اغتيال النقيب عيد في منطقة الحازمية بتفجير عبوة ناسفة بعدما كان تعرض قبل عام تقريبا لمحاولة اغتيال فاشلة. وفي 19 تشرين الأول 2012 اغتيل اللواء وسام الحسن في الأشرفية بتفجير سيارة مفخخة.
في كانون الثاني 2011 سلم بلمار القرار الإتهامي إلى المحكمة الدوليّة وفيه يوجّه تهمة الإغتيال إلى أربعة أعضاء في حزب الله هم مصطفى بدر الدين وسليم عياش وحسن عنيسي وأسد صبرا قبل أن يتم ضم حسن مرعي إليهم في وقت لاحق نتيجة معلومات إضافية توافرت. وفي 16 كانون الثاني 2014 بدأت المحاكمة التي استمرت حتى آخر المرافعات في أيلول 2018 وأسدلت الستارة على هذا الملف الكبير بانتظار استكمال المراجعة من أجل إصدار الحكم.
مهما طال الوقت
طال الوقت ولكن منتصف أيار المقبل سيكون الموعد مع هذا الحكم كما أعلنت المحكمة الدوليّة. ولكن هل يطرأ ما يستدعي تأجيل صدوره؟ طالما ربطت المحكمة الدوليّة عملها بالتطورات في لبنان. وهي درست وتدرس إحتمالات انعكاسات الحكم وتأثيره على الوضع الداخلي وما إذا كان يمكن أن يؤدي إلى حصول توترات داخلية. ولذلك قد يبقى موعد صدوره معلقاً على هذه التطورات خصوصا أن لبنان يدخل اليوم مرحلة خطيرة من الإنهيار السياسي والمالي والإقتصادي. فهل سيبقى الموعد الذي تم تحديده قائماً أم أن التطورات ستؤدي إلى تأجيله على خلفية أن لبنان لن يكون قادراً على تحمل تداعياته؟ وما الذي يمكن أن يضيفه هذا الحكم على ما بات معلوماً ومكشوفاً من حيثيات وظروف عملية الإغتيال خصوصاً أن الحكم سيكون ضد أشخاص ولن يتعدّاهم إلى تنظيمات ودول وقادة ورؤساء؟ وكيف سيتلقى “حزب الله” مفاعيل هذا الحكم بعدما كان رفض التهمة الموجّهة إلى المنتمين إليه الذين خططوا ونفّذوا وتواروا عن الأنظار وجزم بأنه لن يتم توقيفهم لا اليوم ولا بعد مئة عام؟ وكيف سيتعاطى الرئيس سعد الحريري مع الموضوع بعدما كان أعلن أنه يعطي الأهمية الأولى للوحدة الوطنية؟ وكيف سيكون ردّ فعل الحكم والحكومة؟ لا شكّ في أن “حزب الله” سيعتبر أن هذا الحكم ليس إلا جزءًا من المؤامرة الدولية التي يتعرض لها والتي كانت المحكمة الدولية إحدى أدواتها وهو سيرفضه بالمطلق ويعتبر أنّه كأنّه لم يكن معيداً تكرار اتهام إسرائيل بالعملية.
يبقى أن صدور الحكم لا ينهي عمل المحكمة الدولية التي تولت متابعة ملف محاولة اغتيال الوزير مروان حماده واغتيال جورج حاوي ومحاولة اغتيال الوزير الياس المر باعتبار أنها متلازمة ومتّصلة بعملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري الأمر الذي يجعلها من ضمن صلاحياتها وفقاً للقرار الذي أُنشِئت بموجبه.
تأخرت العدالة الدولية ولكنها انتصرت بعد 15 عاماً. المهم أن يتحقّق أيضا مبدأ تحقيق هذه العدالة وعدم الإفلات من العقاب الذي يبدو أنه لا يزال بعيداً بدليل أن إنشاء المحكمة لم يوقف مسلسل الإغتيالات.