Site icon IMLebanon

حكومة الحريري تنتظر مَن يُنزلها عن سلّم التنازلات

 

 

بانقضاء الأسبوع الأول ـ وهو حتى الآن تحت خط المهلة المعقولة لتأليف الحكومة – يتعمّد الرئيس سعد الحريري، ويجاريه رئيس الجمهورية، إحاطة جهوده بصمت كامل، مع دحض أو نفي كل ما يُشاع عمّا بلغه أحدهما، أو كلاهما، حيالها

 

حينما لا تكون للصمت فائدة، لا يعود سلاحاً ذا مغزى. ما يُراد منه في الغالب، إما إخفاء تقدّم يحتاج إلى المزيد لاستكماله وحرصاً على عدم تخريبه، أو لا تقدّم مطلقاً كأن المحاولة لا تزال في النقطة الصفر. ذلك هو الانطباع المزدوج، المتناقض، عن مراحل تأليف الحكومة ما بين قصر بعبدا وبيت الوسط.

 

خلافاً لما كان يرافق تأليف الحكومة في العقد ونصف العقد المنصرم، قلّة لقاءات الرئيس المكلف برئيس الجمهورية، وكثرتها بالكتل الرئيسية الشريكة ضمناً في جهود التأليف، قبل الوصول إلى محطته الأخيرة. ما يجري الآن معاكس: أربعة اجتماعات بين الرئيسين في أسبوع واحد دونما الإفصاح عن مدى التقدّم الذي أحرزاه، فيما لا ذكر علنياً في أحسن الأحوال لاتصال الرئيس المكلف سعد الحريري بأيّ من الكتل ذات الشأن. في الموازاة تكثر التكهنات والترجيحات بلا أي سند جدّي. بسذاجة فسّر البعض الكتمان بأنه استعادة لحصر التأليف بالرئيسين وحدهما تبعاً لصلاحياتهما الدستورية، بينما أدرجه بعض آخر ـ مصيب إلى حدّ ـ في نطاق أن المتبقي من التأليف الذي أُنجز الأساس فيه باكراً قبل التكليف لم يعد يحتاج سوى إلى الرئيسين.

تفصح عن هذا الغموض وتناقض المعلومات معطيات من خارج دائرة الرئيسين:

أولها، عدم التفاهم نهائياً بين الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون على عدد الوزراء. يصرّ الأول على 18 وزيراً كي يقتصر التمثيل الدرزي على مقعد واحد يحلّ فيه مَن ينتدبه النائب السابق وليد جنبلاط، فيما يتمسّك الثاني بحكومة العشرين كي يكون للدروز مقعدان أحدهما لجنبلاط والآخر وعد عون النائب طلال ارسلان بإعطائه إياه، وقيل إن الوعد هو حقيبة الإعلام، وإن ارسلان ينام على حرير هذا الوعد. لا تكمن الأهمية في الحقيبة، مقدار الدلالة التي ترمي إليها، وهي وجود شريك درزي ثانٍ وتأكيد حضوره التمثيلي في مجلس الوزراء وتنظيم توازن القوى داخله.

لم تعد أسماء الاختصاصيين مهمة للغاية هنا، كون الأصل في التفاوض هو توزيع الحقائب على الكتل التي تسمّي وزراءها. كذلك توزيع الحقائب على الطوائف غير ذي أهمية ـ ما خلا استثناء حقيبة المال ـ كون الكتل تقارب حصصها على أنها ممثلة طوائفها أيضاً.

ثانيها، رغم المعلوم أن الاتصال مقطوع تماماً بين الحريري ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، مباشرة أو عبر وسطاء، إلا أن إبقاء الالتباس من حول الحصة المسيحية، يعزّز الاعتقاد بأن باسيل ليس غائباً عن التفاوض، مستمداً دوره من عون، المفاوض الفعلي للحريري في التأليف.

يشير ذلك إلى تبدّل ملموس في الآلية الدستورية التي ترعاها المادة 53، عندما تقسّم مراحل تأليف الحكومة إلى ثلاث غير متداخلة، كلّ منها منفصلة عن الأخرى ولها توقيتها: أولاها الاستشارات الملزمة لتسمية رئيس مكلف ينشأ في نهايتها كيانه الدستوري الموقت من غير أن يمسي بعد رئيساً لمجلس الوزراء، إلا بعد أن يصدر المرسوم الذي يوقّعه رئيس الجمهورية منفرداً. ثانيتها الدور المنفرد الذي يضطلع به الرئيس المكلف بإجراء مشاورات ثم بانصرافه إلى وضع مسودة حكومته، من غير أن يكون لرئيس الجمهورية أي دور في هذه المرحلة، وإن اقتضى أن يزوره الرئيس المكلف لإطلاعه على مشاوراته تلك، إذ يقتصر وضع التصور على الرئيس المكلف. ثالثتها عندما يحمل الرئيس المكلف مسودته إلى رئيس الجمهورية، فيمسي الدور لكليهما على قدم المساواة، ما يلزمهما الاتفاق كي يقترن صدور مرسوم التأليف بتوقيعهما وإلا لا مرسوم، إذّاك يصبح لرئيس الجمهورية دور مضاعف، مرتبط بموافقته على المسودة أو تعديلها أو رفضها كي يقبل بالتوقيع. سوى ذلك يبقى الرئيس المكلف مكلفاً أو يبادر إلى الاعتذار.

 

سرّ صمت التأليف: إما الكثير تحقق أو لا شيء

 

 

ما يجري اليوم مخالف لدورة المادة 53. قبل أن يضع الحريري مسودته، بات شائعاً أن مفاوضه الوحيد على الحصة المسيحية هو رئيس الجمهورية الذي يمثّل نفسه، مقدار تمثيله حزبه الذي يشكل الكتلة النيابية الأكبر والكتلة المسيحية الأكبر في البرلمان. لأن عون يشغل الآن ثنائية الدور، كرئيس للدولة وكمعنيّ بالحصة المسيحية، لا يعود مهماً بالنسبة إلى باسيل أن يكون في صورة الحدث، ولا يحتاج بالضرورة إلى مصالحة بينه والحريري. تأكيداً على ذلك بدأت تتردد معلومات عن توزير أسماء مسيحيين في حقائب أساسية على صلة مباشرة بعون أو بباسيل، من غير أن يعني استئثارهما بالحصة المسيحية كلها.

ثالثها، يفوت البعض ما يبدو تفصيلاً في المرحلة الأخيرة من التأليف، قبل وقت قصير جداً من صدور مرسوم الحكومة، وهو ليس تفصيلاً مقدار ما أضحى في صلب تقاليد اللعبة: قبل إعلان التشكيلة الحكومية وطبع المراسيم الثلاثة، يقتضي توجه رئيس مجلس النواب نبيه برّي إلى قصر بعبدا للاطّلاع على الصيغة النهائية، خالية من أسماء الوزراء الشيعة التي يحمل بنفسه لائحتهم معه. هو المفوّض باسم الثنائي الشيعي تسليم الأسماء إلى رئيس الجمهورية والرئيس المكلف في هذا الوقت بالذات وليس قبلاً، لئلا تخضع مرة للمساومة وأخرى للمقايضة كأسماء. بذلك تُصوَّر أسماؤهم على أنها لا تُمس أبداً. تقليد كهذا ليس جديداً ولا طارئاً، ولا حتماً شكلياً. يحمل في دلالته مضموناً إضافياً، هو وجود شريك ثالث في التأليف هو الشريك الشيعي يمثّله على الدوام برّي. من دون موافقته المعنوية في أحسن الأحوال، لا مراسيم لأن لا أسماء وزراء شيعة. في خانة التسليم بهذا التقليد وقع الحريري، كما أسلافه جميعاً، وجاروا الدور الشيعي الثالث في التأليف. البعض يتذكّر أن برّي كان أول من غادر قصر بعبدا في 15 شباط 2014، قبل دقائق من طبع مرسوم حكومة الرئيس تمام سلام، وأشرف على التسوية المفاجئة غير المتوقّعة في الدقيقة الأخيرة بإعطاء حقيبة الداخلية إلى النائب نهاد المشنوق والعدل إلى اللواء أشرف ريفي. في ذلك الوقت، كانت الطائرة التي ستقلّه إلى الخارج أدارت محرّكاتها تنتظر وصوله إلى المطار.

ذهب الحريري أخيراً إلى أبعد من ذلك. سلفاً، قبل أن يُكلَّف سدد ثمن التكليف، بأن رضي بإعطاء حقيبة المال إلى حركة أمل وترك تسمية الوزراء الشيعة إلى مرجعيتهم (حركة أمل وحزب الله)، ناهيك بتعهّده حصر التمثيل الدرزي بجنبلاط. ثمرة التنازلين المبكرين هذين – أول درجات سلم التنازلات – أيّد الزعيم الدرزي تكليفه.

ليس خافياً ما بين تشرين الأول 2019 عندما استقال، وتشرين الأول 2020 عندما أُعيد تكليفه، أن الحريري صعد على سلالم الشروط والتنازلات مرة بعد مرة، يجرّب واحدة تلو أخرى. أوقع ثلاث «ضحايا» على الطريق هي الوزير السابق محمد الصفدي وسمير الخطيب والسفير مصطفى أديب، ضحاياه هو الذي رشّحها للتكليف ثم تخلّى عنها، كمَن استساغ لعبة ثم ضجر منها كي يطلب أخرى. من حيث قدّم – هو وليس ثالث أولئك – أثمن التنازلات إلى الثنائي الشيعي من أجل الوصول إلى السرايا.

أداء كهذا أضحى كافياً له اليوم، وإن مع حكومة اختصاصيين، كي تطلب الكتل الأخرى امتيازاً شبيهاً، أو أقل بقليل من الذي أُعطي إلى الثنائي الشيعي، بتسميتها وزراءها. الحجة التي يتسلّح بها أولاً بأول رئيس الجمهورية.