IMLebanon

الحريري يتولّى «تنفيس» حراك عون

الذين يمتلكون المعلومات لم يتفاءلوا حتى الآن بإنتخاب رئيس للجمهورية، لا اليوم ولا في المواعيد اللاحقة لساحة النجمة. ويقول هؤلاء إنّ الحراك الجاري بين بيت الوسط وبنشعي والرابية وعين التينة وكليمنصو لا يستهدف إطلاقاً انتخاب العماد ميشال عون، كما يتخيّل البعض أو يتمنى، بل البحث عن سبيل لـ»تنفيس» الحراك «المزعج للجميع» الذي قرَّر عون المضيّ فيه انتحارياً، على طريقة «علَيَّ وعلى أعدائي يا رب»!

إذا كان الحريري قد بدَّل موقفه وقرَّر اعتماد عون مرشحاً رئاسياً له، فهذا يعني أنّ السعودية وافقت على عون. وهذا الاحتمال ضعيف لأنّ المناخ العام في مواقع القرار في المملكة ليس مؤاتياً لدعم عون، كما أن أيّ وسيط لم يتحرّك مجدداً لـ«تسويق» هذا الخيار.

فالطرف اللبناني الأكثر قدرة على القيام بالوساطة كان حتى الأمس القريب النائب وليد جنبلاط الذي أرسل الوزير وائل أبو فاعور إلى المملكة أخيراً. ولكن، لا علاقة الرياض بالمختارة شفيت تماماً من نكسة السنوات الأخيرة، ولا جنبلاط في صدد تسويق الخيار الأكثر سلبية له وللرئيس نبيه بري، ولا شيء يضطرّه إلى ذلك.

ولعلّ الدكتور سمير جعجع هو الأقدر اليوم على أداء دور الوسيط. لكنّ تسويق قطب ماروني من «14 آذار» لقطب ماروني آخر من «8 آذار»، بعد فرنجية، في السعودية، يبقى مسألة فيها نظر.

وفي المقابل، تبدو الافتراضات التي تقول إنّ الحريري قرّر التصرف بمعزل عن الخيارات السعودية وانتخاب عون «نكاية»، في غير محلّها. والكلام الموزَّع هنا وهناك على شوائب تعتري العلاقة بين بيت الوسط والرياض ينبغي التعامل معه بحذر، لأنّ الشوائب تتعلق بجوانب محصورة فقط، وهي ليست شاملة.

إذاً، ما يقوم به الحريري مدروس تماماً ومنسَّق، في شكل مباشر وغير مباشر، بين القوى التي تدير البلد حالياً. فما يقوم به يلتقي تماماً مع مصلحة الرئيس نبيه برّي وجنبلاط و«حزب الله» لجهة انتزاع ورقة الشارع من يد عون وإطفاء الفتيل الذي يمكن أن يهدد الاستقرار إذا ما قرّر عون الذهاب بالتصعيد إلى حدود غير متوقعة، وهذا ممنوع دولياً وإقليمياً.

لقد جرى، قصداً وعمداً، توزيع الأجواء والمواقف المتناقضة داخل «المستقبل»، على النواب والكوادر والإعلاميين، بين مَن يجزم قرار انتخاب عون وبين المتمسّكين بفرنجية والآخرين «الأصوليين» في «14 آذار»، الرافضين انتخاب أي مرشح ينتمي إلى «8 آذار». وهكذا، يطمئنُّ عون وفرنجية… من دون إغلاق الباب أمام مفاجآت العودة إلى جعجع مجدداً، أو الرئيس أمين الجميّل.

ما يقوم به الحريري يصفه نائب بارز بأنه حراكٌ «موناليزي». فكل مَن ينظر إليه يشاهد فيه حالته النفسية. وهو يترجم «التحالف الرباعي». فالسلّة التي ينادي بها بري هي الباب الوحيد للمجيء برئيس للجمهورية. ولا يمكن أن يكون أي قطب مسيحي جزءاً من السلّة، بل شخصية مارونية مصنّفة «وسطية» من خارج دائرة الأقطاب… إذا حان موعد الاتفاق على السلّة. وهذا الموعد لم يحِن بعد.

تلتقي مصلحة «التحالف الرباعي» هذه، في «تنفيس» عون، مع الرغبة الدولية والعربية في أن يبقى لبنان في المرحلة المقبلة تحت السيطرة، فلا تتعرض سلطته المركزية للانهيار، ولا يتمّ إلهاء المؤسستين العسكرية والأمنية في الشارع.

وليس مسموحاً لأي قوة سياسية داخلية بـ«الخربطة»، فيما الهدف هو مواجهة الجماعات التخريبية كـ«داعش». الأكثر حماساً لإطفاء الفتيل العوني هو «حزب الله» الذي يجد نفسه في موقع شديد الإحراج لجهة مجاراة عون في التصعيد، أي قطع الحوار ومقاطعة جلسات الحكومة والمجلس النيابي المقبل على جلسات تشريعية حيوية.

والموقف الحريري الذي يمنح عون آمالاً «افتراضية» بانتخابه رئيساً للجمهورية من شأنه أن يبرِّد غضبة عون، علماً أنّ الرابية لم تحدِّد مَن المستهدف بحراكها: خصومها أم حلفاؤها، وماذا تريد منهم. وهذا التبريد يستفيد منه «حزب الله» أكثر من «المستقبل».

ويتجنّب «الحزب» أن يقع في الإحراج الذي سيقوده إليه التصعيد، فيما هو يحرص على التمسّك بعون حليفاً ثابتاً. لذلك، هو يرتاح إلى عملية «التنفيس» التي يقودها الحريري- بري- جنبلاط. وأمّا فرنجية فيتفهّم الضرورات جيّداً ويدرك أنّ الحراك الافتراضي الجاري نحو الرابية ليس سوى فقاعة وتنتهي، وأن الحريري سيقترب كثيراً من الرابية… لكنه لن يصل!

والدليل إلى هذا التصوّر هو أنّ لهجة عون التصعيدية، المفترض أنها ستنطلق اليوم، تراجعت. ومن المؤكد أنّ الرابية تنشغل بتلقّي اتصالات التهنئة والتبريك بانتخاب عون «افتراضياً» رئيساً للجمهورية، بدل انشغالها بتنفيذ التحركات التصعيدية سياسياً وشعبياً.

وإذا استمرّ الوعد والتفاؤل حتى الجلسة التالية «الافتراضية» أيضاً، فإنّ عون سيبقى مخدّراً بنعيم الوعود فترة أطول، وقد يجري تمرير المرحلة التي كان سيملأها عون بالتصعيد، بالتي هي أحسن. وسيكون عون شهريار الحكاية الذي نام على قصص مثيرة ترويها شهرزاد المثيرة ألف ليلة وليلة… إلى أن أنعم الله عليهما بوليّ العهد.

في مطلع تشرين الثاني المقبل، سيكون العالم كله في انتظار رئيس في واشنطن لا في بيروت. وبعد ذلك، سينبت المزيد من العشب الشتوي

والربيعي في ساحة القصر الجمهوري. وقد لا يكون في بال كثيرين في العالم أنّ هناك كرسياً شاغراً في بلدة لبنانية من ضواحي بيروت إسمها بعبدا، ما دام الدستور اللبناني قد ابتكر البدائل، ووضع الصلاحيات في يد مجلس الوزراء مجتمعاً… ولو طال الفراغ 100 عام.

هل يصل ذكاء القوى المسيحية «المرجعية» إلى اكتشاف اللغم، ولو لمرّة واحدة، أم تستمرّ «على عَماها»، فيأخذها وعدٌ ويردُّها وعدٌ آخر؟

وأي رئاسة جمهورية تبقى، وأي هيبة للرئاسة وللرؤساء تبقى، عندما تصبح الرئاسة والرؤساء مادة تسلية وحجر «داما» يتلهّى به الآخرون؟

غداً، إذا جرى انتخاب عون أو فرنجية أو سواهما، فكيف سيكون وضعهما المعنوي في ظل التركيبة التي جاءت بهم، خصوصاً أنّ هذا الرئاسة تلقّت الطعنة التاريخية الأولى بفضل تناحر المسيحيين أنفسهم، الذي قاد إلى الاتفاق المهين للرئاسة في «الطائف»؟

مرّة جديدة، لئلّا تستمر مهزلة الرئاسة، وتستمر شماتة المسيحيين، بعضهم ببعض، هناك مدخل وحيد لا بديل منه لانتخاب رئيس للجمهورية يختاره المسيحيون، ويقررون انتخابه الآن وليس غداً، من دون اعتراض أحد. وليجرِّبوا هذا المدخل ليعرفوا إذا كان يوصل إلى هذا الهدف أو لا:

الباب الواقعي الوحيد لانتخاب رئيس يختاره المسيحيون، في التوقيت الذي يريدونه، هو عقد اجتماع مسيحي عام، الأفضل أن يكون في بكركي، تشارك فيه الأحزاب والتيارات والقوى السياسية وأوسع مروحة من النخب الفكرية والاقتصادية والروحية، على تنوّعها.

وهذا الاجتماع ينتهي بإعلان مرشّح الإجماع المسيحي الذي يَتصف بالقوة والاعتدال والنزاهة والجدارة السياسية. وهناك عشرات بل مئات من الموارنة الذين تنطبق عليهم هذه المواصفات. ويتوجّه هذا الاجتماع إلى سائر الشركاء داعياً إيّاهم إلى انتخابه. وسيكون النصاب المسيحي مؤمَّناً بالتأكيد، كما أنّ أي كتلة لن تستطيع رفض انتخاب هذا المرشّح.

إنّ رئيساً للجمهورية بهذه المواصفات سيكون أقوى من عون أو فرنجية أو سواهما. وقوته يستمدها من الإجماع المسيحي عليه، ومن نظافته وجدارته ورصيده السياسي وانفتاحه غير المطعون فيه وعدم ارتهانه لأيّ محور خارجي.

طبعاً، لا تحبّذ فئات معينة هذا النوع من الرؤساء. وهي تفضّل الفراغ حالياً، ثم واحداً «من الحواضر» تمون عليه، ولها مَماسك كثيرة عليه كي يبقى خاضعاً لها. وإذا وصل القادة المسيحيون إلى هذا المآل، وهم سيصلون حتماً، سيكون سهلاً إدراك المسؤول فعلاً- لا بالشعارات- عن الفراغ الرئاسي ومأزق الشراكة والميثاقية!