الردّ على مزاعم نتنياهو يتعدّى الزيارة الاستعراضية.. والحل بسلطة قوية على المرافق التي تربط لبنان بالعالم الخارجي
سبق وفاتح مسؤولون أميركيون القيادة العسكرية ببسط سلطة الشرعية على المناطق الخارجة عن سيطرة «الحزب».. والجواب بقي ملتبساً
وسط غليان المنطقة واحتدام المواجهة الأميركية مع إيران، وذهاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إبراز خارطة من على منبر الأمم المتحدة يقول إنها لمواقع تحتوي على صواريخ مخزنة في محيط مطار بيروت الدولي، يصبح المطلوب أكثر من الزيارة الاستعراضية التي دعا إليها وزير الخارجية جبران باسيل الدبلوماسيين الأجانب المعتمدين في لبنان. فالجولة التي غاب عنها ممثلو الدبلوماسية الأميركية في لبنان، كما ممثلو العديد من الدول الخليجية، لا تشكل دليلاً يدحض اتهامات نتنياهو. الصواريخ – إن وُجدت في ضاحية بيروت – ليست مكشوفة في مواقع فوق الأرض، والرد الملموس لا يكون بجولة للدبلوماسيين بل بلجنة عسكرية يكون خبراء الأمم المتحدة جزءاً منها. هي مسؤولية الجيش اللبناني الذي تقع عليه مهمة بسط سيادة الدولة على الأراضي اللبنانية، ولا سيما العاصمة، وتأمين المرافق الحيوية التي تربط لبنان بالعالم الخارجي، وفي مقدمها مطار رفيق الحريري الدولي، البوابة الجوية الوحيدة لبلاد الأرز مع الخارج.
لم يكن مستغرباً الصمت الرسمي على الإعلان الصريح للأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله في الليلة الأخيرة من أيام عاشوراء، من أن «الأمر انتهى وباتت المقاومة تملك الصواريخ الدقيقة». فالصمت يُعبّر عن تواطؤ من هذا الطرف، وضعف وعجز من ذاك الطرف وحسابات سياسية طموحة من ثالث، لكن نتائجه المدمرة في نهاية المطاف ستكون واحدة على لبنان.
فالرسالة التي أراد نتنياهو إيصالها إلى لبنان الرسمي، الذي كان حاضراً في نيويورك، مفادها أن الحرب على لبنان هذه المرة لن تكون كسابقاتها، ولا سيما حرب تموز 2006، حيث تمّ يومها استهداف مركّز لمناطق «حزب الله» وبيئته الحاضنة التي يستخدمها دروعاً بشرية، وجرى تحييد القوى النظامية اللبنانية والمراكز الحيوية الرسمية من الضربات الجوية المدمرة، حتى أن ضربة المطار آنذاك طالت مدرجه من دون إحداث أضرار كبيرة في أجهزته وبناه التحتية. ما يقوله رئيس الوزراء الإسرائيلي أن لبنان بأكمله سيدفع ثمن أي مغامرة، وستكون البنى التحتية والمواقع الحيوية والمدن المأهولة أهدافاً مشروعة إذا تلطى خلفها «حزب الله» وأطلق منها صواريخه. هو أراد أن يوصل الرسالة إلى مسامع المجتمع الدولي، ويُخبرهم سلفاً بأن استهداف المدنيين بات مشروعاً بعدما حوّلهم «حزب الله» إلى «أكياس رمل» في قلب العاصمة بيروت وليس فقط على الحدود الجنوبية، على مرأى من القوى النظامية اللبنانية.
سبق أن فاتح مسؤولون أميركيون قيادة الجيش بضرورة بسط سلطة القوى الأمنية على المناطق الخارجة عن سيطرة «حزب الله» والمواقع الحسّاسة للدولة. جاء الجواب ملتبساً نابعاً من واقع البلاد المعقد، وتعاملت معه واشنطن ببراغماتية وفهمها لتوازنات الداخل وأولوياتها. لم تنطلق في العقود الماضية نظرة الدول الغربية وحتى العربية والخليجية إلى مطار بيروت على أنه تحت سيطرة الأجهزة الرسمية وحدها. التداخل والتشابك بين ما هو مدني وأمني وموقع المطار الجغرافي وزرع «حزب الله» مخبرين له في عداد الكوادر الإدارية وغير الإدارية، وصولاً إلى همس يدور في الأروقة عن ربط ما لـ «داتا المعلومات» من الواصلين إلى المطار والمغادرين منه مع أجهزته، أمور معلومة لدى تلك الدول التي تستند في كثير من الأحيان إلى ضمانات مباشرة وغير مباشرة من «الحزب» وليس إلى آليات الدولة والقانون.
كانت تُطرح على الدوام أسئلة ليس فقط حول قدرة المؤسسات الرسمية على القيام بواجباتها ودورها، بل حول رغبتها الفعلية في ذلك. «فائض القوة» شكّل أحد العوائق ولكن أيضاً شبكة المصالح المستفيدة من وجود «اللادولة» فعلت فعلها. اليوم كثير من الدول تضيق ذرعاً نتيجة عجز المؤسسات والأجهزة اللبنانية وتقصيرها والتفافها على متوجبات القوانين والأنظمة والمعاهدات، ما يطرح تساؤلات مشروعة حول تداعيات تجاهل مؤسسات الدولة للهوامش المسموح بها دولياً.
مساحة المناورة تضيق، وكذلك إمكانية غض الطرف. فالضغوط على لبنان ستشتدّ على وقع تصاعد الوتيرة في المنطقة. مكافحة مصادر تمويل الإرهاب والجريمة المنظمة وتهريب المخدرات وغسل الأموال كلها عناوين تشكل تحدياً للبنان. فهو يتعاون حيناً ويلتف أحياناً، ينسق حيناً ويزود الشركاء الدوليين بالمعلومات ويحجبها أحياناً، كلها مسائل خاضعة للظروف ومبدأ المواءمة وطبيعة ما هو مطلوب منه، بما جعله يمارس سياسة الكيل بمكيالين، ويُكـرّس معادلة «الصيف والشتاء تحت سقف واحد»، لجهة كيفية تطبيق مؤسساته، على اختلافها، للقرارات والقوانين.
باتت اللعبة أشد خطورة مع دعوة نصرالله الصريحة للقوى السياسية إلى الخروج من سياسة النأي بالنفس، فيما تلك القوى نفسها موجودة داخل الحكم. قال «إن ما يجري في المنطقة يرسم مصيرها ومصير لبنان»، لا بل «إن مصير لبنان يصنع في لبنان وفي ساحات وميادين المنطقة». وما يحاول زعيم الذراع الإيرانية الأقوى فعله هو محاولة إلغاء أي تمايز على الساحة اللبنانية، بما يحوّلها إلى ميدان كليّ في خدمة الدفاع عن إيران في المعركة التي تتم قراءتها على أنها المعركة الفاصلة في مستقبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهذا يتطلب بالتالي، استخدام كل الإمكانات الممكنة من أجل جمع ما أمكن من أوراق قوّة لصرفها حين يحين وقت التفاوض.
والقناعة الأكيدة لدى طهران وحلفائها أن الورقة المؤثرة في هذا المجال هي ورقة الضغط المباشر على إسرائيل. فإذا كان الباب مقفلاً من غزة ومن الجولان، فهل يكون مفتوحاً من جنوب لبنان؟ هو السؤال الأصعب حتى على «الحزب»، الذي يُدرك أنه لو امتلك صواريخ دقيقة، كما أعلن أمينه العام، تطال مواقع إسرائيلية حيوية، فإن الحرب ستكون مدمرة على بيئته ومناطق نفوذه، وأن احتمالات تجنّب خوض هذه الحرب تكون قليلة إذا ضاق الخناق على إيران، التي لن تقف مكتوفة الأيدي أمام خطة أميركا وحلفائها في المنطقة لتقليم أظافرها ومحاصرتها اقتصادياً وخلق شرخ بين النظام الحاكم وشعبه بواسطة لقمة العيش، ونقل الاضطرابات إلى الداخل الإيراني بما يُهدّد أركان النظام وبُنيانه.
المخاوف تتزايد مع القراءة الأميركية التي تجنح أكثر باتجاه توقع أن تذهب إيران إلى المواجهة حتى النَفَسْ الأخير، واستنفاد كل وسائلها وأذرعها الخارجية، ذلك أن موافقتها على الشروط التي وضعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ستؤدي إلى نهاية النسخة الحالية من الجمهورية الإسلامية ومكامن قوتها، بما يعني عملياً انتهاء مشروعها التوسعي والعقائدي، وفتح الباب أمام إيران جديدة.
القراءة الأميركية تنطلق، هي الأخرى، من إدراك جليّ بأن طهران تراهن على كسب الوقت لتمرير السنتين المقبلتين من ولاية ترامب علّ الانتخابات الرئاسية المقبلة لا تفضي إلى التجديد له. وهذا ما يدفع بصقور الإدارة الأميركية إلى حصر زمن التسوية مع إيران بالعام 2019، وإقفال الطريق أمام أي مناورات لتقطيع الوقت. أما بناء الحسابات على الانتخابات النصفية للكونغرس، وإمكان أن يخسر الجمهوريون الأكثرية في مجلس النواب، بما يضعف الرئيس، فهو – في رأي متابعين للشأن الأميركي – حسابات خاطئة، إذ أن الديموقراطيين متشددون حيال إيران بمقدار الجمهوريين أنفسهم، وربح الحزب الديموقراطي لمجلس النواب – إذا حصل – لن يؤثر على سياسة الرئيس الخارجية، ولا يدل على تراجع حظوظه في ولاية جديدة، ذلك أن غالبية الرؤساء يخسر حزبهم الأكثرية في مجلس النواب في الانتخابات النصفية، ويعاودون الفوز بولاية ثانية. قد يكون هذا حال الجمهوريين في انتخابات السادس من تشرين الثاني، وقد لا يكون، لكن الأكثر رجحاناً أن ذلك لن يؤثر على استراتيجية «سيّد البيت الأبيض» حيال إيران!.