التعرفة الإستشفائية بـ 6 آلاف ليرة للدولار والجهات الضامنة ترفع العشرة تاركة المريض لقدره البائس
باستثناء من يسدّد بوالص تأمينه الخاص بالدولار الطازج، فان الكل في لبنان أصبح فعلياً خارج التغطية الصحية. جميع المؤسسات الضامنة إبتداءً من وزارة الصحة، مروراً بالضمان وتعاونية موظفي الدولة وطبابة الأجهزة الامنية والعسكرية، ووصولاً إلى صناديق التعاضد… تغطي المضمونين على أساس السعر الرسمي، فيما المؤسسات الطبية تتقاضى الفواتير على سعر يبدأ بـ 4500 ليرة ويرتفع مع ارتفاع سعر الصرف.
تحميل المضمون فرق التغطية الصحية بأكثر من الضعفين، هو جزء من الخطة الممنهجة لنقل عبء الإنهيار إلى المواطنين، وتحييد المعنيين المباشرين، وعلى رأسهم الدولة ومؤسساتها. المستشفيات والمختبرات والمراكز الصحية أعلنتها صراحة: التعرفة ستزداد 3 أضعاف إذا كان الدولار على سعر 9500، و4 أضعاف إذا كان 12500، وإلا فان القطاع الصحي مهدد بالإنهيار. وبما أن الدولار “يلعب” على الدرجة 12 وما فوق على سلم سعر الصرف، فان التعرفة الإستشفائية ستحتسب على أساس 6000 ليرة مقابل كل دولار. وهذا ما لا طائل للمواطنين ولا للجهات الضامنة على تحمله بأي شكل من الأشكال.
ما الحل!؟
سؤال، لم يعد يهدف إلى الإستفهام والحصول على إجابات شافية، بقدر ما يدل على التعجب من إنسداد جميع الآفاق. فـ”القطاع الإستشفائي والطبي على حافة السقوط حكماً”، يقول عضو لجنة الصحة العامة والعمل والشؤون الإجتماعية النيابية د. بلال عبدالله. و”هذا لا يتعلق بارتفاع التكاليف التشغيلية فحسب، بل بعدم صلاحية مداخيل الجسم الطبي من أطباء وممرضين للعيش الكريم. وذلك على الرغم من الطلب منهم تقديم كل ما يملكون في سبيل حماية المرضى، والتضحية بأنفسهم في سبيل حماية المجتمع”. من الجهة الأخرى يلفت عبدالله إلى أن “أموال المؤسسات الإستشفائية القادرة والمليئة محتجزة في المصارف، والعادية منها لم تعد قادرة على مواكبة المرحلة وصعوباتها. فيما جميعها يشترك في صعوبة تحصيل المستحقات من الجهات الضامنة التي تدفع بالليرة اللبنانية على أساس السعر الرسمي بعد سنة وأكثر، في الوقت الذي أصبح جزء من مصاريف المستشفيات ومستلزماتها الطبية يسدد بالدولار النقدي.
أمام هذا الواقع تقدم نواب اللقاء الديموقراطي منذ 5 أشهر باقتراح قانون معجل مكرر لدعم هذا القطاع بمبلغ 500 مليار ليرة طارئة. لكن هذا الإقتراح لم يمر. فهو “ليس للكهرباء”، يقولها عبدالله ساخراً. وهذا ما سيدفع لأن يكون المواطن هو الضحية في حال رفع التعرفة الإستشفائية. المؤسسات الضامنة عاجزة ضمن موازناتها الحالية أن تغطي أي زيادة في التعرفة. فالصندوق الوطني للضمان الإجتماعي الذي يشكل العماد الأساسي لاستمرارية المستشفيات، كونه الجهة الوحيدة التي تدفع سلفات شهرية، عاجز. والدولة تتخلف عن دفع مستحقاته البالغة 4500 مليار ليرة. ما يدفعه إلى تأمين التغطية الصحية من خلال الإقتراض من صندوق نهاية الخدمة بشكل مخالف للقانون.
دعم طارئ واستثنائي
اذاً، “رفع التعرفة مستبعد” من وجهة نظر عبدالله. و”ليس من الوارد لأي سلطة أو لمجلس النواب الموافقة على تغيير التعرفة إذا لم تكن مترافقة مع زيادة الحد الأدنى للأجور. ذلك أن العنصرين مرتبطان إرتباطاً عضوياً مع بعضهما البعض. فرفع الأجور في القطاعين العام والخاص يؤمن مداخيل إضافية للجهات الضامنة من المضمونين وأرباب العمل على حد سواء، ويمكنها بالتالي من تحمل فرق الزيادة.
في ظل عدم القدرة على رفع التعرفة من جهة، واستحالة البقاء على التسعيرة الرسمية 1500 من جهة ثانية، ولكي لا يحمل المريض الفرق فان الحل الوحيد حالياً برأي عبدالله هو: “تقديم دعم استثنائي لهذا القطاع لكي يستمر ولو مرحلياً في القيام بواجباته”. وهذا من الممكن أن يتم من وجهة نظره من خلال ثلاث خطوات سريعة وهي:
– وضع جهود وزارة الصحة في تأمين التوأمة مع المؤسسات العراقية لدعم هذا القطاع باطار تبادل الخدمات والخبرات الصحية، موضع التنفيذ. فبغض النظر عن تقييمنا لهذه التجربة، فهي تبقى باباً من الممكن الإستفادة منه لدعم المؤسسات الإستشفائية والحصول على النفط.
– تمرير مشروع قانون دعم القطاع الصحي بمبلغ 500 مليار ليرة.
– الموافقة على مشروع القانون المعجل المكرر الذي أعده “اللقاء الديموقراطي”، والذي يهدف إلى التفاوض مع البنك الدولي لتبديل وجهة استخدام قرض الرعاية الصحية الأولية المقر بقيمة 120 مليون دولار، وتحويل مبلغ 50 مليون دولار للمستشفيات. على أن يقسّم بين 35 مليون دولار للمستشفيات الخاصة و15 مليوناً للحكومية. وهو ما سبق للبرلمان إجازته لغايات إنسانية. كما حدث باقتطاع 40 مليون دولار لمكافحة كورونا. والمطلوب من الحكومة ووزارة الصحة بدء التفاوض مع البنك الدولي، بعدما وقع أعضاء لجنة الصحة مشكورين على مشروع القانون.
معالجة “الورم” الصحي أولاً
مقابل الحلول الموضعية التي تهدف إلى تمرير المرحلة الساخنة من الأزمة، تتضح مخاطر التضخم السرطاني في القطاع الصحي التي انتشرت أفقياً وعمودياً خلال الأعوام الطويلة الماضية. حيث يوجد في لبنان مثلاً 67 مركزاً لتمييل القلب، في حين لا تتعدى الحاجة 12 مركزاً قياساً إلى ضرورة توفر مركز واحد لكل 400 ألف شخص. ويوجد 24 غرفة لعمليات القلب المفتوح، بما يوازي المتوفر في كل فرنسا. وتتواجد مراكز صحية واستشفائية ومختبرات للتصوير الشعاعي والفحوصات المخبرية أكثر من أي دولة في العالم بالنسبة إلى حجم البلد وعدد السكان. “هذا الورم الذي خلقه نظام الملل منذ الحكم العثماني، وغذته الحرب وإفرازاتها يجب استئصال أصله المتمثل بنظام حكم الطوائف”، يقول الأمين العام لـ”الكتلة الوطنيّة” والمدير العام لجمعية “arcenciel” بيار عيسى. فـ”إيكال السلطنة آنذاك شؤون الرعاية (الصحة والتربية والشؤون الإجتماعية) للملل، مقابل استفرادها بالاستراتيجية الجيوسياسية والدفاعية وتحصيل الضرائب، تطور بعد إعلان دولة لبنان الكبير إلى شراكة بين نظام الملل والخدمات وأحزاب الطوائف والسياسة. ما دفع بالطوائف وزعمائها إلى مسك مفاصل شؤون الناس. ومن ثم فرضت الحرب على كل فئة أن تمتلك كل الخدمات. فشهدنا هذا التوسع الهائل والمكلف في الوقت نفسه”. أمّا النتيجة على أرض الواقع فكانت “حالة من الفوضى والغش المتبادل بين الجميع”، برأي عيسى، حيث “يغش المريض لان تغطية الضمان غير متوفرة والضمان يحسم على المستشفى لان الأخيرة تغش، والمستشفى يغش لأن الحكيم يغش… وهكذا دواليك دخلنا في دوامة مفرغة من الهدر والفساد على مختلف المستويات. وبالإضافة إلى ذلك نشأ 11 نظاماً للتغطية الإجتماعية. وكل جهة لديها تعرفتها ونظامها الداخلي الخاص وتختلف بطريقة عملها وتغطيتها للمضمون عن الأخرى”.
الحل الوحيد لمختلف الازمات النقدية والإجتماعية والإقتصادية بشكل عام، والصحية بشكل خاص هو “رحيل هذه المنظومة” من وجهة نظر عيسى.
“ولا خلاص إلا من خلال كف الطبقة الحاكمة يدها عن الحكم. فمثلث أحزاب السلطة والبنك المركزي والقطاع المصرفي اشتركوا في هدر مقدرات البلد على مدى العقود الماضية. وهم يتابعون من خلال تعدد أسعار الصرف في تخفيف خسائر المصارف والمركزي على حساب كل الشعب اللبناني والفئات الفقيرة قبل الغنية”. وعليه يجب الإنتقال فوراً إلى خريطة صحية تعيد هيكلة القطاع الإستشفائي وتحد من الإتساع غير المبرر للقطاع الطبي، توحد التعرفة وتخفض النفقات وتعيد حوكمة القطاع بمجمله على قواعد رشيدة ومنطقية.