بالإذن من السياسة في مشهد الوقوف بعرفة جبل الرّحم، ثمّة أجيال تسيل دموعها شوقاً إذا ما استمعت إلى رائعة أم كلثوم «القلب يعشق كلّ جميل»، وثمة أجيال لا تعرف من هذه الأغنية إلا إعادة عبقري الموسيقى Yenni لمقدمتها الموسيقيّة التي فتنتنا في التسعينات، وثمة أجيال لا تعرف هذه «الرائعة» الشعرية والموسيقيّة بل ولم تسمع بها، حتى الأمس لم أكن أعرف ظروف صناعة الأغنية ولا كيف ولا متى، بعض البحث قادني إلى معرفة القصّة، فأردت أن أتشارك هذه القصّة مع الذين يعرفونها والذين لا يعرفونها، وهذا دين وواجب علينا تجاه عمالقة صاغوا لنا مناسك الحجّ في أبهى صورها الوجدانيّة.
«واحد ما فيش غيره.. ملا الوجود نوره.. دعاني لبيته.. لحد باب بيته.. وامّا تجلى لي.. بالدمع ناجيته».. قرأ السنباطي في كانون الثاني 1971 هذا المقطع من أغنية «القلب يعشق كلّ جميل» وظلّ يدندنه ويتغنى به على عوده في خشوع ليقول لزوجته «كوكب» وهو في قمة تأثّره وانفعاله.. إذا كان الله لم يكتب لي حتى الآن أن أحجّ بيته في مكة وزيارة نبيّه في المدينة فسوف أحجّ بهذه الأغنية.. قالت أي أغنية يا رياض؟ قال: اسمعي هذا الكلام وقرأ لها القلب يعشق كل جميل.. وياما شفت جمال يا عين.. واللي صدق في الحب قليل.. وان دام يدوم.. يوم ولا يومين ـ قالت الله دي أغنية عن الحج ربنا يكتبها لك وانصرفت كعادتها عندما تراه مشغولاً بعمل فني جديد وأغلقت عليه غرفته وتركته يعتكف في محراب فنه، بعدما علمت أن ـ الست ـ أم كلثوم طلبت منه أن يعود إليها في أقرب فرصة لتسمع منه ولو مذهب الأغنية التي قررت أن تسجلها أول شباط 1971.
أما عن قصة الأغنية فنرويها كما هي، فبدأت بسؤال السفير السعودي في مصر آنذاك وهو من أصدقاء أم كلثوم وجهه لها: لماذا لا تقدمي أغنية عن الحج يتغنى بها الحجاج والمسلمون في كل مكان؟ اقتنعت أم كلثوم بالفكرة وعرضتها على السنباطي، وكانت المشكلة التي صادفته هي من هو المؤلف الذي يكتب الأغنية؟ وقبل مرور أسبوع والسنباطي في حيرته رنّ جرس الهاتف في بيته ليأتيه صوت أم كلثوم وتقول له أنا وجدت الأغنية… وطلبت منه الحضور مساء إلى ڤيلتها وتمدّ يدها إلى مكتبتها العامرة بكثير من دواوين الشعراء العرب وتقرأ له أغنية القلب يعشق كلّ جميل من ديوان الشاعر الكبير بيرم التونسي (توفي عام 1961)، وكانت أم كلثوم قد قرأتها من قبل ثم تذكرتها أخيراً ويصف فيها بيرم ببراعته مناسك الحج، انبهر السنباطي بالأغنية وعاد لمنزله واعتكف لمدة شهرين تقريباً يكون خلالها قد انتهى من تلحين الأغنية وطلب من أم كلثوم تحديد موعد البروڤات من رئيس فرقتها عازف القانون الأول محمد عبده صالح حيث تم التسجيل في ستوديو 46 بالإذاعة بحضور مندوب صوت القاهرة الذي تلقف الشريط وطبع منه آلاف الأسطوانات، ويتغنى بها مطلع 1972 ولتنتشر في جميع الأسواق العربية، وتسعد أم كلثوم بإبداعات السنباطي اللحنية خصوصاً في مقطع مكة المكرمة وتغني معه في الأستوديو.. مكة وفيها جبال النور.. طالّة على البيت المعمور.. دخلنا باب السلام.. غمر قلوبنا السلام.. بعفو ربّ غفور.. فوقنا حمام الحِمى.. عدد نجوم السما.. طاير علينا يطوف ألوف تتابع ألوف.. طاير يهنّي الضيوف بالعفو والمرحمة.. واللي نَظَم سيره واحد ما فيش غيره».
طلب السنباطي استراحة لبعض الوقت حتى تستعد أم كلثوم بعد تناول فنجان الشاي المعطر لتغني مقطع المدينة المنورة الذي أبدعه بيرم بأحلى ما يمكن كتابته شعراً ويجسّده السنباطي لحناً لتكتمل الصورة أكثر حلاوة بصوت أم كلثوم… «جينا على روضة هالّة من الجنّة.. فيها الأحبة تنول كلّ اللي تتمنى.. فيها طرب وسرور.. وفيها نور على نور.. وكاس محبة يدور.. واللي شرب غنّى.. وينتهي التسجيل وتنتشر الأغنية وتمرّ الأيام ويكتب الله جل شأنه العمرة للسنباطي.. ويستمع للمعتمرين وهم يتغنون بها ويقبلون على شراء نسخ منها في مكة والمدينة وهم منبهرون بها ويسألهم عن الأغنية من دون أن يعرفوا أنه ملحنها.. ويشكر الله على هذا النجاح ويتعجب عندما يقف أمام باب السلام في مكة والروضة في المدينة ليقول لنفسه كيف وضع اللحن لهذه الأماكن المباركة قبل أن يراها ويشتدّ المرض على أم كلثوم لتكون القلب يعشق آخر لحن تغنّيه في أول خميس من شهر كانون الثاني على المسرح في آخر لقاء لها مع الجمهور، ويشتد مرضها بعد ذلك وتوافيها المنيّة في الثاني من شباط العام 1975.