IMLebanon

متى نخرج من هذا الجحيم؟

 

منذ طرد الإنسان من الجنة وهو يحاول العودة إليها! وهناك طريقان للعودة: الأول، أن نحلم بأننا قد عدنا فعلاً، وذلك بتصوّر خيالي لعالم جميل، ليس فيه متاعب ولا ظلم، بل فيه حب وعدل وسلام. كما فعل افلاطون في جمهوريته والفارابي وتوماس مور وبيكون وسان سيمون وغيرهم…

 

والطريق الثاني لتحقيق هذا الفردوس على الأرض يجيء بالواقعية… بفهم الطبيعة الإنسانية كما هي، وليس كما يجب أن تكون، بفهم وقبول عيوب الإنسان وقدراته، وفهم المنطق الذي يسير عليه التاريخ، وفي تصوّر نظام واقعي يكثر من تحقيق العدل ويقلل من وقوع الظلم ويساعد على الحب بين الناس ويقلل الكراهية ويكوّن للناس مصلحة في السلام.

 

لقد جاءت الثورة الفرنسية وقالت إن طريق تحقيق الفردوس الأرضي هو في الحرية…

 

ثم جاءت الثورة الروسية فقالت إن الفردوس الأرضي لن تكون فيه الحرية بلا خبز… وأصبح العالم منقسماً بعد الحرب العالمية الثانية… الكل يبحثون عن الفردوس الأرضي، ولكن الفقراء يقولون إن طريقه هو الخبز للجميع. والأغنياء يقولون ان طريقه هو الحرية للجميع… ومع ذلك أخذ الأغنياء يزدادون غنى ولا يقللون من الحرية، يوزعون خبزاً أكثر، لأن الحرية جعلت للفقراء قوة أتاحت لهم أن ينتزعوا من الأغنياء جزءاً من ثرواتهم، مع الإبقاء على الثروة والغنى، والإبقاء على الحافز في الاقتصاد محرّكاً له. وأخذت الثورة الروسية تعيد النظر في حساباتها بعد ان وجدت ان الأحلام التي بشّرت بها، لم يتحقق منها شيء وأن الدول الشيوعية أصبح الناس يعيشون فيها بعيداً عن الجنة، وحتى بدون حق بأن يحلموا بالجنة!

 

فأين كنا نحن العرب من كل هذا؟

 

لقد استفاق جيلنا في البلاد العربية على ضياع فلسطين. وحلمنا بالبطل فجاء عبد الناصر، فكانت هزيمة سنة 67! حلمنا بالوحدة التي تحققت سنة 1958 فكان الانفصال سنة 1961؛

 

رأينا بلادنا ترزح تحت ظل التخلف والفقر والجهل، فحلمنا بأن نصبح كلنا أغنياء. ورأينا في أحلامنا ان القضاء على الأغنياء هو الطريق للقضاء على الفقر، فقضينا على الغنى وسقطنا في فقر وتخلّف وجهل أكثر من الذي كنا فيه.

 

وحلمنا بالمقاومة الفلسطينية فإذا هي تسير على طريق جونيه وعيون السمان.

 

بعد أن أصبنا بهزيمة 67، حلمنا بانتصار، فكان لنا سنة 73 بداية انتصار، ولكنه انتهى بكامب دايفيد.

 

أحب العرب لبنان والديمقراطية والحرية فيه، والوئام بين طوائفه وبين الطبقات فيه، فحلموا بأن يصدروا تجربته الى إسرائيل فكانت النتيجة أن إسرائيل صدرت الى لبنان تجربتها في الإرهاب وفي العنصرية الدينية! لم يعد لبنان قبلة العرب صار لكل بلد عربي مشاكله! وحلل الحرام وحرم الفساد وصار لبنان قبلة الفساد بعد ان كان قبلة النجاح والجمال.

 

كنا نحلم بالنهضة الإسلامية، فجاء السلفيون من الجاهلية يحاربون الحلم باللحى و«القباقيب» و«الداعشية»!

 

حلمنا بحرب مع إسرائيل، فكنا ننتظرهم من «الشرق» على الحدود العربية الإسرائيلية فجاؤوا إلينا من «الغرب» على الحدود العراقية – الإيرانية.

 

حلمنا بالديمقراطية والحرية، فإذا شعب الجزائر الذي قدّم مليون شهيد على مذبح الحرية، يعود، بعد أكثر من ربع قرن من الاستقلال، ليطالب بالحرية!

 

هل نحن الجيل الضائع، هل نحن جيل الخيبة؟

 

كانت القضية الفلسطينية هي القضية العربية ثم تراكمت القضايا واحدة فوق أخرى… وضاعت الحرية وكرامة الانسان ولم تعد قضية فلسطينية سوى قضية من القضايا والهموم العربية. المشاهد الخرافية التي تراها الإنسانية اليوم، لم تهبط من السماء فجأة! «الكورونا» التي تفتك بالعالم بعد أن فتك به الطاعون والانفلونزا الاسبانية و… و… كل المشاهد الخرافية التي نراها ولا نصدقها وتقضي علينا ولا نفهم سبباً لذلك. التغييرات التي تتراكم بعضها فوق بعض تحدث تراكمها تفاعلات لا نفهم حقيقتها… هذه الأوبئة التي كسرت ضلع الانسان «الكورونا» ما هذه المشاهد؟ وكلما تقدم العلم وحقق العجائب انفجر وباء فجأة ليقضي على كل الآمال.

 

لبنان ملأه العطر والخلق الكريم أيام شهاب وبشير الجميل وريمون اده فأين أمثالهم؟

 

أيام سوداء… الى متى؟ أيام الكورونا وحزب الله وعون والمرفأ والفساد! الى متى؟ هل يقلب ماكرون الطاولة ويعيدونا الى الأيام الحلوة؟

 

لقد قرأت لأرنست همنغواي «لا تزال الشمس تشرق» والتي اعتبرها النقاد ملحمة جيل الضياع، وقرأت «وداعاً للسلاح»، ووجدت همنغواي لا يطرح ملحمة جيل الضياع ولا الجيل الذي تخلى عن الثورة من أجل الثورة، بل هو يطرح الفلسفة التي تقول ان الانسان لم يخلق ليقهر، أنه يتحطم ولكنه لا يقهر ولكن الفائز لا ينال شيئاً في النهاية!

 

لقد غضب همنغواي عندما صارحته سيدة الصالونات في باريس، من خمسين عاماً، واسمها جرترود اشتاين، بأنه إنسان ضائع… وحاول أن يستوضحها ان كانت تقصده هو بالذات… والسيدة جرترود اشتاين هي التي وصفت جيل الأدباء والفنانين بين الحربين بأنه «جيل ضائع».

 

وحاولت سيدة الصالونات ان تحكي للأديب الأميركي قصة هذا التعبير عن الضياع، فروت له أن لها سيارة فورد. وان هذه السيارة الجديدة تجد صعوبة في قيادتها… وأن لديها سائقاً لا يستطيع أن يقودها وهذا السائق ليس «جاداً»… انه شاب خفيف، أي انه مستخف بالقيم الإنسانية!

 

لقد غضب همنغواي حين سمع سيدة الصالونات تصف جيلاً حارب وقاتل وفقد الذراعين والساقين بأنه جيل ضائع… فهذا الجيل أعطى كثيراً وهو يريد ان يعوّض ما فات، يريد أن يبني الحضارة الانسانية من جديد، ان يترك للجيل الذي يأتي بعده تجربته ليكملها…

 

فسيبقى الإنسان يبحث عن الجنة، طالما كان على قيد الحياة!

 

وتساءل همنغواي في كتابه الذي نشر بعد موته بعنوان «باريس تلك الأعياد الرائعة» من الذي يمكن أن يوصف بالضياع؟ هذا الجيل الذي يحاول أن يبني، رغم ما ضاع منه، أو هؤلاء الذين لم يفقدوا شيئاً ولا يحاولون أن يفعلوا شيئاً. فهل لأن شخصاً لا يستطيع أن يدير سيارة، يصبح كل هذا الجيل عاجزاً عن إدارة أية سيارة… أية طيارة… من توجيه حياته الى أي هدف؟

 

وكتب همنغواي عن سيدة الصالونات الباريسية التي وصفته بأنه من جيل الضياع بأنه بعد أن أحس بهذه الإهانة له شخصياً ولكل جيله من الأدباء والفنانين بين الحربين، عاد الى بيته… ووجد البيت دافئاً. فهناك مدفأة في الحائط. ومدفأة أخرى مكوّنة: من زوجته وابنته وقطة ابنته… والطعام صنعته زوجته… ووجد المصابيح المضيئة في السقف… ووجد الماء يجري في الحنفيات… ووجد الصحف على المنضدة… ووجد الكتب على سريره… ووجد شيكاً قد أرسلته الصحيفة التي يكتب فيها.

 

ومعنى ذلك أنه وجد «نتيجة» أعمال إيجابية قام بها أناس كثيرون في كل مكان… في إدارة النور وفي إدارة المياه وفي المطابع والمطابخ، كلهم يعملون. كلهم قد وجدوا طريقهم… فهم جميعاً لهم هدف… ان يعملوا بعضهم لبعض.

 

فقال لزوجته: هل تعرفين ان السيدة جرترود اشتاين ظريفة؟

 

وأجابت الزوجة: فعلاً!

 

– هل تعرفين ان لها تعليقات سخيفة جداً في بعض الأحيان؟

 

– أنا لا أعرف. فأنا زوجتك وأنت الآن تتحدث عن احدى صديقاتك.

 

– ومطّ شفتيه في قرف وابتلع ما كان يريد أن يبصقه على الأرض، كأن السيدة، صاحبة الصالون، مرسومة هناك… عند قدميه على الأرض!