غريبة شؤون وشجون هذا الشعب اللبناني الذي قلب كلّ ما فيه من حسنات وامتيازات مفترضة، من شأنها لو تمازجت وتوافقت في خصائصها وتفوق كل منها في ميدان معين وفي إطار محدّد، أن ترتفع بهذا البلد الذي شاء قدره وتدّرجه في سنواته المائة التي مرت على نشأته وخوض تجربة التمازج التي يعيشها منذ مائة عام طامحا بكثير من الجهود والصعوبة، لأن تكون مثالا يحتذى في نماذج الشعوب، ومن المنطلق التعددي الذي شاءه كثيرون أن يكون نموذجا ينبض بالحياة المشتركة التي تجمع اليها عديدا من الطوائف والمذاهب والفئات والجهات متعددة الأنواع والمشارب، ما حصل في الواقع، أنّ سنوات عديدة ومديدة قد مرّت على العمر اللبناني، لمسنا خلالها مع مرور وتعدّد الأجيال تدرّجا تراجعيا، حفل بالتناقضات والمشاكل والاحترابات المتنوعة، وها نحن اليوم مع بالغ الأسف واللوعة، نمرّ في مرحلة من تاريخ هذا البلد، هي الأقسى والأشرس والأكثر مدعاة إلى التخوّف من ذلك الإنهيار الشديد المرتقب إذا ما استمرّت الأحوال على ما هي عليه من سوءٍ وتدهورٍ وانحطاط وتراجع هائل في المستوى الاقتصادي والمعيشي إلى هذا الحد الذي أصبحت فيه غالبية واضحة وفاضحة من اللبنانيين، تتراوح في وجودها وحياتها انطلاقا من مستوى الحاجة الملحّة ووصولا إلى درجات الفقر المدقع، وفي الوقت الذي أمل فيه كثيرون أن نتجاوز مرحلة الإنحدار مع حلول السنوات الأربع التي مرّت من حياة هذا العهد، إذ بنا نفاجأ بتوصيف مخيف لحياتنا المقبلة بسرعة البرق، سبق أن أدلى به رئيس البلاد ورئيس العهد «الجديد»، وزعيم الإصلاح والتغيير الجنرال عون، حيث وصف المرحلة القائمة والمقبلة بأننا منحدرون فيها إلى «جهنم» وبئس الواقع والمصير. لم يكتف اللبنانيون مع الأسف، بواقعهم المتعثّر، بل سارعوا إلى جملة من الخصومات والنزاعات، فلم يسلم منهم إلاّ قليل من الجهات والفئات التي بقيت على شيء من الوفاق والتآلف، أما البقية العظمى منهم، فقد سارعت إلى مواقف الخصام والنزاع ففرطت معظم التحالفات القديمة التي كانت قائمة، وحلّ محلّها ما زاد في الطنبور السلبي أنغاما تفاخر في استقلاليتها وفي موقفها المتميز عن حلفائها السابقين، وانقلب النجاح الذي صادفته المبادرة الفرنسية في بداياتها إلى مشروع فشل وجملة من خيبات الأمل، وها نحن اليوم وقد ضاعت أمامنا كل ظروف اللقاء الوطني المجدي والمتكامل والسليم، لتحل مكانها أحزاب متلاطمة، بهدوء وحنكة وتشاطر حينا، وبنزاعات حادة وعلنية تنزع إلى روح الخصومة البارزة التي جعلت من لبنان بلد الفئات المتلاطمة والمتلاكمة والتي تكاد أن تفقد أدنى إمكانية تؤمل بالإنقاذ والخلاص، ويكاد اللبنانيون أن يصبحوا من خلالها على أبواب ضياع كامل، وبعيد عن شواطئ الحياة الطبيعية إلى درجة دفعت الكثيرين منهم إلى صنوف الهجرة بكل اتجاهاتها ومواقعها، هربا مما هو حاصل وجزعا مما سيكون.
البلد… حافل بالمجابهات، خاصة منها تلك التي أوصلتها الأيام والظروف إلى مواقع الحكم والمسؤولية، ولنا في ما هو حاصل بين التيار الوطني الحر، وتيار المستقبل، حيث بات متعذرا الوصول إلى نقاط إيجابية مشتركة تمكّن من تأليف حكومة إنقاذ يتمثل دورها الأول في ابتداع طريقة لانتشال لبنان واللبنانيين من كوارث الأوضاع القائمة التي تهدد هذا البلد المنكوب بالانهيار الشامل وبالضياع الرهيب لكيانه ووضعيته الدستورية والقانونية وحياته العامة، ولا تقتصر الإستحالة على الوضعية الحاكمة، بل نجد كميات مذهلة من الخلاف العلني والمُبَطّن، قائمة ما بين أحزاب وفئات سبق أن جمعتها المصالح العامة والمبادئ الوطنية المشتركة والرغبة في التلاقي من خلال العمل العام الموحد والمشترك، مثال على ذلك ما هو قائم حاليا بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية حيث نجد في ميدانهما الذي كان مشتركا تباعدا وتناقضا وتناهضا برز في الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع وفي بعض التصريحات والتلميحات، وفي تلاطم حاد من خلال وسائل التواصل الإجتماعي، وحتى الآن، فإن محاولات اللّملمة والعودة إلى سابق الأحوال الطبيعية لم تنجح إلاّ قليلا.
ولا يُخفف من ذلك كثيرا، بعض التصارع والمواقف المعلنة من كل من الفريقين ولا يقلّل من سلبياتها ثبات المواقف الحقيقية التي باتت متناقضة ومتناهضة، كل ذلك مع التشديد على استغرابنا لمواقف الإنكفاء عن مجمل العمل العام المسؤول، فلا ندرك في الواقع، كيف أن المواقف السلبية والمنكفئة يمكن أن تصبّ في النهاية في مصلحة بلد يتهاوى بكل أسسه وأعمدته ويحتاج إلى كل الجهود من كل الجهات والفئات، فتتلاقى توافقات ومخططات مشتركة، تسهم في تمكين هذا الوطن من النهوض وتلافي المطبات والعوائق والسقطات المهلكة، أما ما كان من تفاهم بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، والذي كان قد استهدف في حينه توحيد الصف المسيحي من جهة، وتقاسم الوظائف العامة نتيجة لهذا الإستهداف، فقد حلّ به ما حلّ بكل مواقف التوحيد والتآلف فانقلب إلى خصام شديد الوطء والأثر وباستمرارية لا تدلّ على أي تفسير إيجابي.
غريب أمر هذه البلاد، السائرة قولا وفعلا: نحو «جهنم»، بل هي باتت في صميم لهيبها ومصائبها.