في واحد من تعليقاته التي يحتار المرء في تصنيف دوافعها أطلق الرئيس دونالد ترامب على الرئيس بشَّار الأسد صفة غير مستحبة جديدة على لغة التخاطب بين الحكام، ذلك أن مثل هذه الصفة تبدو طبيعية ومألوفة بين إثنيْن يتعاركان كلامياً في الشارع إلاَّ أنها لا تليق بمَن هم في القمة وبالذات بمَن هو رئيس دولة عظمى أو الأعظم، في إنتظار أن تتضح مكيدة الرئيس بوتين لتحقيق طموحه الأعظمي.
وفي معلومة متصلة بالصفة التي أطلقها الرئيس ترامب، أن الفتى إريك شقيق إيفانكا الإبنة ذات النفوذ على والدها الرئيس قال في مقابلة مع صحيفة «دايلي تلغراف» البريطانية عدد الخميس 13 نيسان الجاري«إن قرار الضربة الصاروخية على القاعدة العسكرية السورية – مطار الشعيرات جاء بتأثير من إيفانكا الحزينة والمحطَّمة القلب والغاضبة جرَّاء ما وقع في خان شيخون نتيجة الهجوم الكيميائي للأسد. أنا متأكد أنها قالت: إسمع يا والدي الرئيس. هذا شيء رهيب. وفي مثل هذه الظروف فإن والدي- يضيف الفتى إريك- يتحرك عادة ولا يخاف من أي تحرك روسي أو تصعيد في سوريا بعد الغارة. كما لن يكون ثمة ما هو أصعب. والدي لديه عمود فقري قوي أكثر من أي شخص آخر. إنه صارم جداً وليس من الناس الذين يمكن تشرهيبهم كما لا يمكن إعطاؤه تعليمات. وإذا كان بعض الأمور تنتج من تصرفات الآخرين، فهو يجيد السيطرة…».
إذا نحن إعتبرْنا رواية الإبن إريك دقيقة حول تأثير شقيقته إيفانكا كأم لثلاثة أطفال إضافة إلى ما يقال حول تأثيرها عليه، فهذا يجيز لنا الإفتراض أن الضربة الصاروخية فجر يوم الجمعة 7 نيسان 2017 على مطار الشعيرات تمت في جانب منها بقرار عائلي «إيفانكي» في منأى عن التشاور، بمعنى أن المستشارين كانوا غائبين أو ربما مغيَّبين عن هذه الخطوة. ولو كان حدث التشاور لربما وُجد مَن يقول للرئيس ترامب إن مثل هكذا ضربة بعد تلك مسايرة تمثلت بالقول ما معناه إن تنحي الأسد ليس شرطاً للتسوية، تترك إنطباعاً لدى الرأي العام العربي والدولي بمَن في ذلك الرأي العام الأميركي بأن رئيس الولايات المتحدة يفتقد إلى الرؤية الإستراتيجية الثاقبة والحصيفة، وأنه بتقلباته السريعة لا يمارس الدور المأمول منه. ولعله في ما إتخذ من موقف يلتقي من حيث الإفتقاد إلى الرؤية تلك مع الرئيس بشَّار الأسد الذي كان مثيراً للإستغراب أنه يوجه ﺑ«الضربة الكيماوية» بعدما كانت الإدارة الأميركية أعلنت بما معناه أنها لا تتمسك برحيله. وهنا يصبح جائزاً الإفتراض أن الطرف الثالث الذي هو الذائع صيته كيميائياً أو الإيراني الثابت تأثيره على القرار البشَّاري، أو أحدهما بعلْم الآخر أو من دون عِلْمه، عمد إلى التشويش على التوجه الأميركي الخجول خادعاً ضمناً الرئيس بشّار، وذلك من خلال «الضربة الكيماوية» التي حققت خلطاً للأوراق وعلى نحو ما يبغي الآمر بتنفيذها وعلى وجْه السرعة.
لكن مِن الجائز الإفتراض أيضاً أن «الضربة الكيماوية»تمت في إطار من التراضي الأميركي- الروسي. ونقول ذلك مستندين إلى المعلومة التي تفيد أن الجانب الأميركي أطلع الجانب الروسي على أنه سيضرب «قاعدة الشعيرات العسكرية» إلتزاماً بتهديدات أطلقها من خلال المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة، وأن القيادة الروسية المفجوعة نسبياً بعملية التفجير في «مترو» مدينة «سان بطرسبورغ» إستوعبت الأمر ربما لأنها رأت في ما سيفعله الجانب الأميركي (الذي قصف القاعدة السورية بتسعة وخمسين صاروخاً من نوع «توماهوك» من مدمرتيْن تبحران في شرق البحر المتوسط) إمتصاصاً لردود الفعل الناشئة عن «الضربة الكيماوية» مِن جهة وتقليلاً من مساحة الصدمة التي أصابت الرئيس بوتين شخصياً من عملية التفجير في مدينته التي هي بالنسبة إليه بأهمية الكرملين. ثم إن الجانب الأميركي خدم بوتين عندما أحاطه عِلْماً بعملية قصْف القاعدة السورية وذلك لأنه خلال ساعات بين إبلاغه وبين التنفيذ أفرغ القاعدة وجوارها من العسكريين الروس وهم بالمئات، بينما دفع الثمن السوريون من جنود وضباط وفنيين وطائرات وإنشاءات. كما أن الجانب الأميركي خدم بوتين لأنه سيربط النظام السوري بإتفاقيات تسليح جديدة تعويضاً عما فقده كما أيضاً سيضيف موجباً جديداً إلى ضرورة تعزيز دوره البحري والجوي والبري في سوريا التي يرى أنها جوهرة التاج القيصري البوتيني إذا سرقها الأميركي منه ينتهي شأن روسيا البوتينية بعد حين على نحو إنتهاء شأن روسيا بريجنيف وكوسيغين وبودغورني التي أُهينت أسوأ إهانة من مصر في السنتيْن الأُولييْن من حُكْم الرئيس أنور السادات في السبعينات.
خلاصة القول إن «الضربة الكيماوية » المثلثة (روسية – إيرانية – بشَّارية) هي توأم «الضربة الترامبية» اﻟ«توماهوكية» التي تستخدمها أميركا للمرة الثانية بعد الأُولى قبل 26 سنة. ضربة خدمت ضربة. المستفيدان هما بوتين المتورط في سوريا وترامب المتخبط في أمر بلورة الدور الإقليمي للولايات المتحدة في المنطقة. أما الطرف الدافع الثمن دماً وأرواحاً وخراباً فإنه سوريا التي يُخشى أن يصل التلاعب الروسي- الأميركي – الإيراني في مصيرها إلى يوم نسمع فيه أن الرئيس ترامب سيخص سوريا بواحدة من «أم القنابل» التي أهدى إحداها إلى أفغانستان… إنما هذه المرة من دون إحاطة الرئيس بوتين عِلْماً بذلك. ثم نسمع نتيجة هذه المباغتة أن حرب الأساطيل فوق مياه المتوسط بدأت. فقد إمتلأ سطح هذا البحر بكل أنواع القِطَع البحرية والغواصات الأميركية والروسية.
وفي حال بدأت هذه الحرب فإنها ستنتشر وصولاً إلى القارات الخمس وتأتي على الأخضر واليابس والتراث والحضارة.. وعلى النفط والغاز في الطريق. وهذه هي جهنم ذات الرأسيْن: بوتين وترامب وبينهما رؤوس إقليمية أينعت وحان قطافها.
يا لسوء حال الأجيال الآتية بمَن في ذلك الفتى إيريك ترامب وأطفال شقيقته إيفانكا ذات التأثير على الأب الرئيس المبتهج بصواريخ «توماهوك» على سوريا و «أم القنابل» ذات الفعل النووي على أفغانستان. لا حول ولا قوة إلاّ بالله.