كثيرون يتساءلون عن السبب الحقيقي الذي يحول حتى الآن دون تشكيل حكومة أريد لها أن تكون حكومة العهد الأولى المتمتعة بصلاحيات واسعة وقادرة على ترسيخ جذور «العهد القوي» ومناصريه «الاقوياء». بين الآراء العديدة التي تحاول تفسير العقبات الوفيرة التي تحول دون التأليف وتؤخره حتى الآن، وربما إلى أجل غير محدد، يبرز رأي استنقيته من أحد كبار المطلعين على خبايا وخفايا السياسة الأميركية المستجدة في الشرق الأوسط، والتي ما زالت حتى الآن تخفي أكثر مما تعلن، اللهم إلاّ ما يطلقه الرئيس ترامب من وقت لآخر من تصريحات شعبوية، قد تدل على شيء من الحقيقة، وقد تكون الحقيقة في مكان آخر، يسعى الممسكون بمقادير السلطة الفاعلة، إلى تحقيقه بروية وخبث ودهاء. تنطلق سياسة الولايات المتحدة الحالية من هدفين أساسيين، أولهما تبني وجهات النظر الإسرائيلية التلمودية بصورة لم يسبق لها مثيل منذ نشأة إسرائيل وحتى حصول الفوز المفاجىء وغير المتوقع للرئيس ترامب، وثانيهما العداوة العميقة التي يكنّها ترامب لإيران، إلى درجة نسف فيها الإتفاق النووي الذي أبرمه أوباما، وألحقها بسياسة موغلة في العدائية، وهو حاليا يلاحق إيران بعنف شرس على الصعيد الإقتصادي، والسياسة الإقتحامية التوسعية التي تمارسها إيران من خلال الميليشيات المسلحة التي أسستها في عدد من البلدان العربية ومن خلال دعمها المادي وغير المحدد، وتزويدها بالأسلحة المتوسطة وصولا بها إلى الأسلحة الصاروخية الثقيلة.
أما عن تبني ترامب لإسرائيل وفقا لأقصى حدود التطرف الإسرائيلي من خلال نقله للسفارة الأميركية إلى القدس، واختراعه المتحمس «لصفقة القرن» التي تلغي من خلالها القرارات الدولية خاصة منها ما تعلق بإنشاء دولتين، ومباشرة تنفيذية لاختلاق دولة فلسطينية دون أن تكون القدس (الشرقية) عاصمتها، مع سعي تنفيذي لحصر الدولة الفلسطينية بغزة التي باتت تشكل عبئاً أمنياً واقتصادياً على إسرائيل. واستكمالا لهذه المرحلة الإنقلابية المستجدة أقر الكنيست الإسرائيلي قانون الدولة اليهودية التي لا تعترف بمواطنين لها سوى اليهود مواطنيها الحاليين او المستقدمين إليها من شتى أنحاء العالم لملء المدن الإستيطانية التي تبنيها تلك الدولة على أنقاض قرى وأحياء ومدن فلسطينية من خلال طرد سكانها من منازلهم إلى ما تيسر لها من أصقاع الداخل والخارج، دون أن ننسى ذلك التصرف الأميركي الأرعن بصدد وكالة الغوث ومحاربتها مالياً بشتى الأساليب التي تستهدف بالنتيجة توطين الفلسطينيين في بلدان اللجوء وطمس المعالم الإنسانية والوطنية للشعب الفلسطيني.
أما عن الهدف الأميركي الثاني والمتمثل باستهداف نظام الملالي القائم، وهو الصلب المنوّه عنه في هذا التعليق وإذ نذكر بأطرافه المعلومة التي وصلت الهجمة الأميركية فيها إلى درجة محاولة الخنق الإقتصاي، وكبح جماح التمدد الإيراني-الفارسي في المحيط العربي، وهو أمر معروف بمعظم تفاصيله المذهبية والقومية الفارسية، ها هو ترامب ووزير خارجيته يحدد كلٌّ منهما ما يقتضي على إيران أن تقوم به لوقف الهجمة الأميركية بوجهها الإقتصادي أولا، ووجهها العسكري ثانيا في حال تطور الأوضاع سلبيا، خاصة إذا عمدت إيران إلى تعطيل الملاحة في أي من الممرات البحرية، وإذا عادت إلى تفعيل نشاطاتها النووية ولم تتوقف عن إنتاج الصواريخ البالستية وبصورة خاصة، إذا لم تردع نفسها عن التمدد السياسي والعسكري وإثارة الإضطرابات في المنطقة، خلاصات تمثل ما على إيران وجوب القيام به والاّ أصيبت بالاختناق المالي والاقتصادي من خلال التدابير الأميركية الصادمة التي بدأ تطبيقها جزئيا، والتي ينتظر الإيرانيون مرحلتها المقبلة في تشرين المقبل شديدة التأثير والخطر، ونتوقف خاصة أمام الشق المتعلق بعمليات الخنق المالي والإقتصادي حيث سنتناول في ضمن ما نتناوله، حزب الله اللبناني، الذي تفيد بعض المعلومات، ان جزءا أساسيا من العقوبات سيطاوله بشتى السبل والمقاييس، وأن من أهم العقبات الأساسية التي تحول حتى الآن دون تأليف الحكومة، يأتي الموقف الأميركي الذي أعلم بأكثر من وسيلة للدولة اللبنانية عموما، وأركانها الأساسيين الساعين لتأليفها في أقرب وقت ممكن، نتيجة لحرص اللبنانيين على تحقيق ما صدر عن مؤتمر سيدر الذي انتهى إلى إقرار معونات إنمائية تقدم للدولة اللبنانية شرط تأليف الحكومة والشروع في عمليات إصلاحية ملموسة وتأمين الضمانات اللازمة للحفاظ على سلامة حوالى أحد عشر مليار دولار، مع تحسب وتحفظ وتخوف الدول المانحة عليها مما لمسته من عمليات المحاصصة الغاطسة بالكامل في بحور الفساد الإحترافية التي لا ترتوي ولا تشبع.
لماذا لم تتألف الحكومة حتى الآن؟
أسباب عديدة أُعلنت ومنها العقد المسيحية المتشبثة بمطالب تم الإتفاق عليها عند حصول المصالحة ما بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، وعقدة التسابق منذ الآن على موقع رئيس الجمهورية المقبل والعقدة الدرزية التي يطالب الوزير جنبلاط بالاستحصال وحده لا شريك له بوزرائها الثلاثة، المتمثلة باصرار الوزير باسيل باختصارها الى وزيرين درزيين وحفظ المقعد الوزاري الدرزي الثالث للوزير طلال أرسلان، وتم حتى الآن تناسي وتجاهل ما يقتضي تسميته بالعقدة الشيعية وهي متغلغلة بصورة خاصة في ثنايا حزب الله، وهو منذ مدة تحت الأنظار الثاقبة الموجهة إليه ومرشح، هو والمراكز المالية المختلفة التي تتعاون معه إلى جملة من العقوبات الإقتصادية والتي سيصادف حصولها مع جملة الإنهيارات الحاصلة حديثاً في بنية الإقتصاد الإيراني، الأمر الذي سيكون له أثره التلقائي على مالية الحزب، إضافة إلى طرح جملة من المعيقات التي تهدف إلى منعه من أن يكون جزءا من الحكومة اللبنانية المقبلة، حتى اذا ما تساهلت، فهي لا تريده حائزا على مواقع وزارية سيادية خدماتية مؤثرة.
بعضهم يقول: ان هذه العقدة الشيعية هي أهم العقد التي يقتضي حلها، وهي لم تحل حتى الآن، ولا يبدو في الأفق المنظور أفق لحلها في مرحلة منظورة.
بعضهم بات يستعيد طرحاً أطلقه غبطة البطريرك الماروني بأن تتشكل الحكومة المقبلة من مرشحين تكنوقراط ومن ذوي الكفاءات والسمعة النظيفة، هل يكون حل ما مختبئاً خلف هذا المدخل؟ الجواب يكمن في ثنايا تطورات المنطقة، وما يخبئه لها الكبيران: روسيا والولايات المتحدة.