Site icon IMLebanon

أعلى درجات الانحطاط اللبناني

سبّبت الحرب الأهلية اللبنانية المتواصلة منذ السبعينات، شبه انهيار شامل على جميع المستويات في البنى المجتمعية، وفي الاقتصاد والتعليم والثقافة… وكان أخطرها ما طاول القيم الإنسانية وكيفية تعاطي أصحاب السلطة مع مصالح الناس. إذا كانت مظاهر الانهيار كثيرة في لبنان، إلا أنه يمكن تمييز اثنين منها متجلّيتين في طبيعة الطبقة السياسية التي أنتجتها الحرب، وحال النظام القضائي والمآل الذي وصل إليه. فالداخل الى قلب هذين المجالين سيشهد على مستوى الانحدار القيمي الذي يمكن وصفه بأنه أعلى درجات الانحطاط في الحياة اللبنانية.

أفرزت الحرب طبقة سياسية تكوّن معظمها من تحالف أمراء الحرب الأهلية وزعماء الميليشيات، مع «رأسمالية متوحشة»، وتقوده وصاية سورية تحدّد له ما هو مسموح وغير مسموح. انحكم البلد قبل الخروج السوري وبعده بعقلية الميليشيات في علاقتها بمؤسسات الدولة وقطاعاتها الإنتاجية، فلم ترَ في الدولة سوى «البقرة الحلوب» التي تدر على أمراء الحرب الموارد، سواء كانت بطريقة شرعية أم غير شرعية. لم توفر قطاعاً من النهب، وأعملت السرقة في كل مجال من المجالات. أما الرأسمالية المتوحّشة، فحكمتها عقلية اقتصادية متخلّفة تستند الى نظريات اقتصادية بائدة تعود الى القرن السادس عشر، والقائمة على ترك الحرية للسوق التي تحدد مسار الحياة الاقتصادية، وتحدّ من تدخّل الدولة في هذا المجال. وهي نظرية لا تقيم اعتباراً لمصالح الناس وللتنمية الاقتصادية وتحسين الوضع الاجتماعي، بمقدار ما يتركّز همّها الأساسي على تحقيق أرباحها الخاصة. هذا التقاطع بين أمراء الحرب والرأسمالية المتوحّشة قادته الوصاية السورية وكانت تبتزه صعوداً وهبوطاً، وتشاركه عملية النهب المنظّم لموارد البلد. لم يتغيّر مسلك الحلف الميليشياوي – الرأسمالي بعد الخروج السوري، بل استمر مسلسل النهب وعدم أخذ مصالح الناس في الاعتبار. لعل فضيحة النفايات أتت خير دليل على الانحطاط الذي وصلت إليه هذه الطبقة في التعامل مع أمور البلد، فظهر أن خير تعبير عن النفايات المتراكمة هو تلك النفايات السياسية القابضة على اللبنانيين. لم يكن شعار الحراك الشعبي خاطئاً عندما قال «كلن يعني كلن» غارق في الفساد والسرقة.

الميدان الآخر الذي يعكس درجة الانحدار أو عدمها في كل بلد، هو حال القضاء ومدى استقلاليته وصموده في وجه تدخّل السلطة السياسية. فالقاضي يتحمّل مسؤولية جسيمة في المجتمع، فهو يمكنه تبرئة المجرم وتغريم البريء، أي أنه يتحكّم برقاب المواطنين. من هنا، يجمع علماء السياسة على اعتبار القضاء مقياساً لدرجة تطوّر كل بلد أو تخلّفه. من دون الذهاب الى التعميم في هذا المجال، لا بد من الاعتراف بأن الجسم القضائي اللبناني اعتورته الكثير من الشوائب. قسم منه خضع لتأثير السلطة الميليشياوية الرأسمالية، واستجاب لضغوطات الوصاية السورية، مما شوّه صورة أحكام كثيرة صدرت عنه.

لم يمنع هذا الضغط على القضاء من «تمرّد» قضاة على التدخل والضغوط والحكم وفق قيم أخلاقية وإنسانية. لكن الفضيحة المجلجلة التي وضعت القضاء في قفص الاتهام، كانت الإفراج عن ميشال سماحة المتهم بتحضير تفجيرات في البلد، كان يمكنها أن تلحق أضراراً هائلة في نسيجه الاجتماعي من خلال المسار الفتنوي الذي كان مرسوماً لها.

مثل آخر على الخلل في القضاء يتّصل بتنفيذ قانون الإيجارات الجديد. سبق للرأسمالية المتوحشة أن وضعت قانوناً للإيجار يقوم على تشريد أكثر من مليون مواطن لبناني من خلال تحرير العقود ورفع بدلات الإيجار في شكل خرافي، بما يجعل مستحيلاً على المستأجر أن يقوم بتسديد إيجار منزله بعد عامين من تطبيق القانون. كانت الفضيحة الأكبر في إقرار هذا القانون من مجلس النواب الذي أقره بمادة وحيدة، تبين لاحقاً أن نواب الأمة كانوا جاهلين بمضمونه ولم يقرأه إلا من وضعه من ممثلي هذه الرأسمالية والشركات العقارية. خضع القانون لطعون من المجلس الدستوري، وأفتى قسم كبير من الفقهاء القانونيين بعدم صلاحيته بسبب المواد المطعون بها، لكن ممثلي المصارف والشركات العقارية مصمّمون على تنفيذه، وهم يستعينون بالقضاء لإصدار أحكام بتنفيذ القانون الجديد. تتّهم لجان المستأجرين بعض القضاة بالتواطؤ مع الشركات العقارية والاستجابة لمطالبها. لا يدرك القضاة المنخرطون في إصدار مثل هذه الأحكام أن هذا القانون، إذا ما جرى تنفيذه بالقوة من قوى الأمن، سيؤدي لاحقاً الى معضلة اجتماعية وعنف من جانب مواطنين لن يجدوا لهم مأوى سوى الشارع.

تلك عينات بسيطة من المآل الذي وصل إليه البلد، هذا فيما لا يبدو أن مسار هذا الانهيار والانحطاط القيمي المواكب له سائر الى التوقف أو عرضة للإصلاح.