IMLebanon

ميدان سباق الخيل: الجولة الأخيرة

قرر مجلس بلدية بيروت تحويل ميدان سباق الخيل الى «بارك مركزي». هذا الخبر كان سيعدّ من الاخبار الجيّدة لولا ان المخططات المطروحة تنحرف كلياً عن الهدف المعلن. فالمطروح هو استكمال «السطو» على الاملاك العامّة، عبر وضع نحو 260 ألف متر مربع، تشكّل مساحة العقارات التي يقوم عليها الميدان، بتصّرف شركات خاصة تبتغي تحقيق ريوع هائلة، سهلة وسريعة، وفتح باب الاستثمار الخاص لاقامة «غيتو» آخر مخصص لفئة معينة من الناس، على غرار الـ«زيتونة باي» على خليج ما جريس (شفيع بيروت)، وأيضاً على غرار ما يُرسم لدالية- الروشة والكرنتينا… وربما حرج بيروت، الذي لا مبرر لاستمرار إغلاقه في وجه الناس سوى الرغبة الجامحة بمصادرته واستثماره لمنافع خاصّة كفيلة بتدمير ما تبقّى من مساحات خضراء باتت نادرة وثمينة

تحت عنوان «انقاذ ميدان سباق الخيل» يجرى التخطيط للقضاء على آخر المساحات الخضراء المتبقية في بيروت المكتظة. الخطة تهدف الى استثمار نحو 260 ألف متر مربع من الاملاك العامة من اجل تحويلها الى «زيتونة باي» ثانية بدلاً من فتحها لجميع الناس للانتفاع منها. هذه المساحة النادرة، المتواصلة مع حرج بيروت، والقائمة على موقع يتسم بأهمية اجتماعية بالغة (في الوسط بين احياء المزرعة والطريق الجديدة وقصقص والغبيري والشياح وعين الرمانة وفرن الشباك وبدارو والاشرفية…)، ستخصص بحسب قرار مجلس بلدية بيروت «الممتازة» لإقامة اندية للغولف والفروسية ومطاعم «صديقة للبيئة والطفولة»، اي ستخصص لانشطة ربحية توفر خدمات مدفوعة الثمن لا يقوى على تحمّلها الا قلّة قليلة من اصحاب المداخيل المرتفعة والمغتربين والسياح.

هناك خلاف في مجلس بلدية بيروت على آليات تحقيق هذا الهدف «الخبيث»، وهو خلاف على الشكل وليس الجوهر. في حين أن طرفين يتنازعان السيطرة على ميدان السباق، هما: بلدية بيروت (المنقسمة بين رئيس مجلسها ونائبه) وجمعية «حماية وتحسين نسل الجواد العربي»، التي تنتفع وحدها من الميدان الحالي وفق عقد «مطعون فيه» مبرم مع البلدية منذ زمن بعيد. وفي ظل كل ذلك، يغيب الطرف الثالث، المستتر، اي أبناء المدينة، الذين لم يتمكنوا منذ السنوات الأولى لتشييد الميدان من تكوين ذاكرة جماعية مرتبطة به. هذا الميدان ترتفع أسواره عالياً بوجه السكان حارمة اياهم من الاستفادة منه.

إنقاذ «ايبودروم الصنوبر»!

يشيع مجلس بلدية بيروت ومستثمري الميدان انهم يريدون انقاذ «ايبودروم الصنوبر» لمصالح عامة، ولكن هناك وجه آخر لايبودروم سباق الخيل يختبئ خلف أسواره العالية تفضحه الملفات الكثيرة التي تعود الى أيام العثمانيين. فرئيس مجلس البلدية بلال حمد يسعى الى اقفاله تمهيداً لاعادة خصخصته.

امّا الجمعية فتبحث عن السبل الافضل لتأمين استمرارية عملها ومصالحها وسيطرتها على الميدان ومرافقه. في حين يطرح نائب رئيس المجلس نديم أبو رزق تصوراً للمساحة «العقارية» التي يقوم عليها الميدان، ظاهره توفير حقوق المصلحة العامة، إلا أنه لا يتردد في الدفاع عن هدف إبقائه مغلقاً في وجه ابناء المدينة، فهو يردّ بصراحة على الانتقادات بالسؤال: «هل ينتقد أحد الأسعار المرتفعة في يورو ديزني؟». يورو ديزني؟ هل هذا هو التصوّر الذي يحقق منفعة عامّة؟ يورو ديزني هي شركة خاصة تستثمر في مدينة ملاهي لغرض ربحي بحت، على غرار اي شركة ربحية، وهي بالتالي استثمار خاص لا يجوز منحه أي امتياز يتعلق بمنفعة عامّة، ولا سيما في مجال استثمار الأملاك العامّة، التي يفرض الدستور والقانون والحق أن تبقى في خدمة الجميع من دون أي تمييز أو استثناء.

لا يتعلق الامر بمجلس البلدية فحسب، او بالجمعية، بل يطاول الاحزاب السياسية كلّها المشاركة في الحكومة، اذ وفّرت هذه الاحزاب الغطاء (بقرار مجلس الوزراء رقم 62 تاريخ 18/12/2014) لخطّة مجلس البلدية الرامية الى «خصخصة» نحو 540 ألف متر مربع من الأملاك العامّة في منطقة المزرعة العقارية من ضمنها الميدان والحرج والملعب البلدي في الطريق الجديدة.

خلاف لا يُفسد الجوهر

منذ أربع سنوات، كلف مجلس بلدية بيروت نائب رئيسه نديم ابو رزق بوضع دراسة لتحويل الميدان الى «بارك مركزي مفتوح أمام جميع الناس وعلى مساحة 200 ألف متر مربع».

وضع ابو رزق تصوراً لهذا الـ«البارك» يتضمن اقامة بحيرة، مدينة ملاهي ومطاعم صديقة للبيئة، أكاديمية للغولف، حديقة للموسيقى، نادي للفروسية، 700 موقف للسيارات، 610 بوكسات للأحصنة. كلفة هذا المشروع لم تُحدد، ولكن هي، بحسب أبو رزق، «قد تتراوح بين 15 مليوناً و20 مليون دولار». هنا انتهى عمل اللجنة التي تألفت، اضافة الى أبو رزق، من أربعة محامين. كان من المقرر أن تتسلم بلدية ايل دو فرانس Ile de France (التي توفّر المساعدة الفنية للبلدية) المرحلة الثانية عبر وضع دراسة تفصيلية. يوضح ابو رزق ان «المشروع توقف بعد انتخاب مجلس بلدي آخر هناك. لذلك راسلت مجلس بلدية بيروت منذ سنة ونصف السنة طالباً منه تعيين مهندس بديل، لا أعلم بأي درج وضعت الرسالة».

التصوّرات المطروحة لاستثمار عقارات الميدان تشبه «الزيتونة باي»

ادارة الـ»بارك» العتيد، كما جاء في تصور ابو رزق، تتولاها «شركات خاصة تحافظ عليه لصالح البلدية… نحن لا نملك العدد والخبرة الكافيين».

منذ شهر ونصف رفض مجلس بلدية بيروت هذا التصور، ليس بسبب ضغوط شعبية أو تحركات لمنظمات المجتمع المدني، بل لأنه لم يتوافق ومصالح رئيس المجلس بلال حمد.

في التفاصيل، دعا حمد منتصف آذار الماضي الى جلسة حضرها عدد من اللجان من أجل التصويت على تصور أبي رزق «رغم وجود اتفاق بيننا أن المواضيع الخلافية تُحل بالتوافق»، بحسب ما يقول ابو رزق نفسه، الذي يعتبر أن هذا الاجتماع كان «فخاً» من حمد، فهو «لم ينتظر حتى أقدم المشروع، بل افتتح الاجتماع بطرح اقتراح جديد يقضي بتكليف دار الهندسة وضع دراسة هندسية ومالية جديدة للميدان. وكأن القرار كان متخذاً مسبقاً».

في نيسان الماضي، قدم أبي رزق استقالته من اللجنة، متهماً حمد بالمماطلة «لأنهم لا يريدون الحفاظ على الايبودروم. البلدية تتعاطى مع الميدان كابن غير شرعي». واستناداً الى مصدر رفيع المستوى في بلدية بيروت، فإن حجة حمد في تعاطيه مع هذا الملف أن «السباق والرهان يتعارضان مع بعض معتقداته الدينية. وان هدفه اقفال الميدان ولو ليوم واحد». في مقابل تجاذب المصالح هذا، لا تجاهر جمعية «حماية وتحسين نسل الجواد العربي» بوجود اي «فيتو» على أي مشروع. تكتفي فقط ببعض الملاحظات. يرى رئيس «الجمعية» النائب نبيل دو فريج أن مخطط أبي رزق «غير واضح هندسياً. كيف ستقام أكاديمية للغولف وهي لا تتطابق مع مواصفات السباق؟ الحصان بحاجة الى بيئة خاصة ليتمكن من الركض».

المفارقة ان دو فريج يتحفظ على تحويل الميدان الى متنزه «للبرجوازيين»، يقول: «حرام أن لا يكون هذا المشروع عاماً وشعبياً». يعتبر دو فريج ان انتظار مخطط آخر من دار الهندسة هو «تضييع للوقت، بعد سنة بكون الميدان راح». يُذكّر بالدراسة التي قدمتها «الجمعية» عام 1994، موضحاً انها «كانت تضم مدرسة لتعلم ركوب الخيل بأسعار رمزية. اضافة الى انشاء ممر تحت الأرض يصل الميدان بحرش بيروت من أجل تسهيل انتقال الخيول». هكذا إذاً، لا خلاف على الهدف، مهما جاءت العبارات منمّقة، فالخلاف بين مراكز النفوذ ينحصر بالآليات وشبكة المنتفعين.

«الميدان» في قبضة «الجمعية»

بدأت «الجمعية» استثمار الميدان عام 1969 بموجب عقد يمتد لفترة 15 سنة. الا ان العقد مدّد مراراً وتكراراً على الرغم من مخالفته للاصول والاحكام القانونية المرعية الاجراء. عملياً، لم يتم تأهيل الميدان منذ سنوات.

يقول دو فريج إن «لا أموال كافية، حتى أننا لم نعد قادرين على شراء المازوت من أجل تعبئة المولدات الكهربائية».

يُفند نائب بيروت أسباب الخسائر: عدم تطوير الحركة في الميدان، تراجع عدد الخيول، عدم تطبيق البنود كافة التي نص عليها قانون موازنة عام 2001 والاسباب الاقتصادية العامة. منذ بداية تسلم «الجمعية» للميدان «لم نتمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي».

يسعى بلال حمد الى اقفال ميدان سباق الخيل متذرعاً بمعتقداته الدينية

علماً ان المجلس النيابي اعفى المستثمر من الضريبة المالية. بحسب كتابين موجهين الى البلدية: «تأزم وضع الجمعية حين لم ترد البلدية على طلبات تسديد الخسائر المتراكمة فيه وعدم تسديد ثمن العداد الالكتروني الذي اشترته الجمعية عام 1998 والبالغة قيمته نحو 40 مليون ليرة». في هذا الاطار، يتحدث أبو رزق عن انتقائية تمارسها البلدية في ما خص التوصيات: «لم تقر المساهمة المالية التي طالبنا بصرفها للجمعية». رغم أن «الجمعية» لم تقم بالتحسينات المفروضة ولم تلتزم العقد بخاصة بما يتعلق بتسديد الاموال لدوائر الدولة، هي ترفض التخلي عن استثمار الميدان. يزعم دو فريج أن تخليهم عن ادارته «يعني وقف السباق… أتمنى أن يكون هناك مستثمر آخر».

تطوير حالة «العدائية»

تحيط بميدان سباق الخيل مناطق شعبية حرمت من أي متنفس او حيز عام. هذا المعلم البيروتي معزول عن محيطه عوض أن يندمج به. هي السياسة نفسها التي قضت سابقاً على تاريخ المدينة وذاكرتها عبر تحويل معالمها الى مشاريع ريعية تأتي اليوم لتقفل ما تبقى من المساحات الخضراء المشتركة. المدينة ضاقت بوجه أبنائها وسياسة البلدية والمستثمرين تعمل على تعميق الهوة أكثر بين السكان والاملاك العامة، ما يعني تطوير حالة من العدائية تجاه ما يفترض أنه يخصهم.

في البدء كانت ساحة البرج، اليوم وصل الدور الى ميدان سباق الخيل وحرج بيروت والدالية والرملة البيضاء… ماذا بعد؟ ماذا يبقى؟

إضاءة | شرعي وموقت

يبلغ حجم ميدان سباق الخيل 260000 متر مربع، وفيه 350 حصاناً يتم تدريبهم يوميّاً. الحفلة، أي السباق، موعدها كلّ أحد وهي تُقسم الى سبعة أشواط يركض في كلّ منها خمسة أحصنة. في حين أنه عام 1982، مثلاً، كانت هناك حفلتان كل سبت وأحد يتسابق في كل شوط 12 حصاناً. أدارت بلدية بيروت الميدان بين عاميّ 1965 و1969 قبل أن تُكلف «جمعية حماية وتحسين نسل الجواد العربي» تشغيله بناء على اتفاقية مدتها 15 سنة. الجمعية مسجّلة على انها ذات منفعة عامة «تعود جميع أموالها الى البلدية عند انتهاء عقدها»، ولكن هذا العقد لم ينته ويجرى تمديده من دون اي مرحعية قانونية. ووفق الموازنة العامة لعام 2001 ، حُددت نسبة البلدية من الايرادات غير الصافية من المراهنات بـ 5%، أما وزارة المالية فتقتطع حصتها من الأرباح تصاعديا من 1 الى 20%. كانت الجمعية تدفع بعض المترتبات عليها لغاية عام 2012، لاحقاً «اضطرت الى تأجيل تسديد هذه الحصة اعتباراً من أول 2013 لأنها كانت مضطرة أن تبدأ باستعمال هذه الحصة لتأمين استمرارية النشاط في الميدان»، بحسب ما ورد في الكتاب الذي رفعته الجمعية الى رئيس مجلس البلدية بلال حمد في 29 تموز 2013. وفي كتاب آخر تبرر بأن «التأجيل في تسديد هذه الحصة لا يُمكن الاستغناء عنه وإلا تكون الجمعية مضطرة لاقفال الميدان». العقد بين البلدية والجمعية لم يُجدد منذ عام 2005، «ولكنهم يُكملون عملهم بحكم قرار من مجلس الوزراء، وضعهم شرعي ولكن موقت»، وفق مصدر رفيع في بلدية بيروت.

تظاهرة اليوم لفتح «حرش العيد»

رفضا لحرمان المواطنين حقهم في الملك العام، واحتجاجا على «سلوك» بلدية بيروت التعسفي المتمثل في إغلاق «حرش بيروت»، وفرض معايير طبقية واجتماعية للسماح لفئة معينة من الناس بالدخول اليه، تنظم حملة «معا لاعادة فتح وتفعيل حرش بيروت»، تظاهرة، اليوم عند الساعة الثانية ظهرا، عند مدخل «الحرش»، للمطالبة بفتحه امام المواطنين، ولتعلن رفضها نقل الملعب البلدي اليه، الذي سيقضي على آخر المساحات الخضراء في المدينة.

يقول المدير التنفيذي لجمعية «نحن»، محمد أيوب إن البلدية لا تزال تمعن في مخالفتها القانون، «هي لا تكتفي بقرار إغلاق مرفق عام، بل تمارس عنصرية مبالغ فيها أيضاً، وتسمح لفئة دون أخرى بالدخول اليه وفق معايير محض طبقية»، لافتا الى ان العلاقة باتت مع البلدية «علاقة مواجهة» تقتضي استرداد حق المواطن في ملكه العام، وداعيا المواطنين الى المشاركة سعيا للضغط بغية استرداد هذا الحق المسلوب.