IMLebanon

فرصة تاريخية مُثلّثة لـ بن سلمان

 

 

تولِّد الحروب الموت والخراب والدمار والمآسي، ولكنها تولِّد أيضاً الفرص لمعالجة أوضاع كان يستحيل معالجتها من دونها. كما انّ الخروج من ستاتيكو معيّن يبقى متعذراً من دون حرب أو تغيير أوضاع من طبيعة استراتيجية.

قد تكشف السنوات والعقود المقبلة بعض خفايا وأسرار حرب طوفان الأقصى من قبيل هل كان توقيت العملية منسقاً مع القيادة الإيرانية ام فعلاً غير منسّق؟ وما الهدف الفعلي لعملية «حماس» العسكرية؟ وهل يعقل ان تقوم بعملية بهذه الضخامة من دون التفكير بردّ الفعل الإسرائيلي ام كان هناك اتفاق مع محور الممانعة على فتح المواجهة دفعة واحدة؟ وهل إسرائيل أصبحت ضعيفة إلى هذه الدرجة أم غضّت النظر عن عملية «حماس» من أجل استخدامها حجة لتهجير قسم من الفلسطينيين في ظل خشيتها من الديموغرافيا الفلسطينية؟ وهل غض النظر كان مقصودا من قبل بنيامين نتانياهو لإطالة إقامته في رئاسة الحكومة تأخيرا لمحاكمة تقوده إلى السجن، ولكنه لم يكن يتوقّع هذا الحجم لطوفان الأقصى؟

هذه عيّنة من بعض التساؤلات التي لا تنتهي والإجابة عنها مفيدة بالتأكيد في كتابة التاريخ، ولكنها لا تفيد بشيء في اللحظة الراهنة التي تدمِّر فيها إسرائيل غزة سعياً لإخراج «حماس» منها وإزالة أو إبعاد الخطر الذي هدّد ويهدِّد وجودها، وفي هذه اللحظة بالذات من الطبيعي ان يكون هناك نوع من تفكير إسرائيلي وأميركي بإعادة رسم الحدود الأمنية لإسرائيل كي لا يتكرّر سيناريو غلاف غزة مجدداً.

ولا شك بأنّ دوائر القرار في واشنطن وتل أبيب تكون قد بدأت البحث في الغلاف الذي يوفِّر أمن إسرائيل داخل كيانها وفي لبنان وسوريا، اي من خلال إعادة ترسيم حدود الدور الإيراني الذي يمكن ان يحصل إن من خلال اتفاق سياسي تتخلى بموجبه عن أذرعها العسكرية التي تهدِّد أمن إسرائيل، خصوصا انها لم تُقحِم محور الممانعة في حرب شاملة إلى جانب «حماس»، أو عن طريق توسّع المواجهة العسكرية لإخراج إيران من الساحات الفلسطينية واللبنانية والسورية.

ومعلوم انّ طهران لم تؤازر «حماس» بفتح الجبهات ليس بسبب عدم معرفتها بتوقيت العملية او اي اعتبار آخر، إنما خشيةً من ردّ الفعل العسكري الأميركي والإسرائيلي، خصوصا ان واشنطن وجّهت رسالة واضحة لطهران بأنها ستتكفّل بمواجهتها عسكرياً في حال دخلت في حرب مباشرة مع تل أبيب، فضلا عن ان إيران لم تكن تتوقّع حجم عملية «حماس» ولا حجم الردّ عليها، ومصلحتها ان تحدّ من خسائرها وليس ان تكبِّر هذه الخسائر إلى درجة التضحية بكل أوراقها وبنفسها، وبالتالي عدم دخولها في الحرب مَرده إلى الخوف لا حسن النية.

ومعلوم أيضاً انّ إسرائيل عارضت بشدة الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة الرئيس باراك أوباما مع إيران، وان الخلاف بين الإدارتين الأميركية والإسرائيلية حول إيران مُزمن، بين واشنطن التي تعمل على احتوائها، وتل أبيب التي تعمل على مواجهتها، ولن تستمر إسرائيل بعد طوفان الأقصى في الوقوف خلف اميركا، إنما العكس ما سيحصل من الآن فصاعداً، وبالتالي لن تقبل تل أبيب استمرار سياسة الاحتواء من دون ضمانات عملية بإبعاد الخطر عنها.

وفي هذا الوقت بالذات الذي أُعيد فيه تسليط الضوء على القضية الفلسطينية والدور الإيراني، خرجت القمة العربية-الإسلامية بثلاثة مقررات تشكل خلافا استراتيجيا مع إيران: أولاً، التأكيد على انّ «منظمة التحرير الفلسطينية» هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ودعوة الفصائل الفلسطينية جميعها إلى ان تتوحّد تحت مظلة المنظمة بغية إنتاج جبهة فلسطينية متماسكة»، وهذا ما لا يمكن ان تقبل به طهران التي تواجه منظمة التحرير وتدعم الفصائل التي تنفِّذ أجندتها السياسية.

ثانيا، التأكيد على «التمسُّك بمبادرة السلام العربية التي أقرّت في قمة بيروت العام 2002، والتشديد على انّ السلام هو خيار استراتيجي للعرب وان حل الدولتين يشكل الترجمة العملية لجهود السلام الشامل والعادل»، وهذا ما لا يمكن ان تقبل به طهران التي تعارض حلّ الدولتين وترفض مبدأ السلام مع إسرائيل.

ثالثا، التأكيد على «ضرورة الدعوة سريعاً لعقد مؤتمر دولي للسلام تنطلق من خلاله عملية سلام على أساس قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام»، وهذا ما لا يمكن ان تتساهل مع انعقاده، لأنّ اي مؤتمر للسلام يعني خروجها من فلسطين ولبنان وسوريا، وهذا يعني تَوقّع مزيد من العنف قطعاً للطريق على أي حلول سلمية.

وعندما أبرمت السعودية «اتفاق بكين» مع إيران شدّدت على ضرورة وقف تدخلات الدول في شؤون بعضها، والمقصود طبعاً التدخل الإيراني في الشؤون العربية، كما دعت إلى ضرورة الالتزام بالقرارات والشرعية الدولية، وأضافت إلى هذين البندين في «إعلان جدة» الرفض الواضح والصريح لثنائية الدولة والميليشيا، اي الثنائية المعتمدة في إيران والدول التي أمسكت بمفاصلها.

ولأنّ السلام لا يولد سوى من رحم المعاناة والحروب والموت والعذاب، فهناك فرصة اليوم للخروج من ستاتيكو الحروب الساخنة والباردة في المنطقة، إلى ستاتيكو السلام والاستقرار، وهنا بالذات تكمن أهمية الدور السعودي والفرصة السعودية التاريخية ربطاً بالمومنتم الإقليمي والدولي الذي أعاد الأولوية للقضية الفلسطينية، وذلك من أجل تحقيق ثلاثة أهداف متلازمة ومتكاملة:

الهدف الأول، إنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني عن طريق حل الدولتين، وإذا لم ينتهِ فهذا يعني ان الدول العربية ستبقى مسرحاً للدور الإيراني المزعزع للاستقرار داخلها. وبالتالي، إنّ الدول العربية والخليجية، التي للغرب مصالح حيوية معها، معنية بتوظيف كل ثقلها وقدراتها وثرواتها وعلاقاتها وإمكاناتها تحقيقاً لهذا الهدف الذي من دونه ستبقى المنطقة خاضعة لجولات العنف والحروب وعدم الاستقرار.

الهدف الثاني، إخراج الدور العسكري الإيراني من الدول العربية، إذ كما أدّى إسقاط نظام الرئيس صدام حسين إلى توسيع إيران لنفوذها باتجاه المنطقة، فإن إسقاط «حماس» يفترض ان يؤدي إلى تراجع نفوذها، خصوصاً بعدما وصلت إسرائيل إلى قناعة بأنّ التفاهم مع الإسلام السياسي مستحيل، وفي حالتي المدّ الإيراني والجزر المحتمل لا علاقة مباشرة للدول العربية والخليجية، إنما المدّ حصل بتسهيل أميركي، ويبدو ان الجزر سيحصل بدفع إسرائيلي، وما لم تخرج إيران عسكرياً من المنطقة فهذا يعني انّ الشرق الأوسط سيبقى مسرحاً للفوضى المتمددة.

الهدف الثالث، تحويل الشرق الأوسط إلى «أوروبا الجديدة»، كما أكد الأمير محمد بن سلمان، ولكن يستحيل الوصول إلى هذا الهدف قبل تحقيق أمرين أساسيين:

الأمر الأول: قيام دولة فلسطينية مستقلة لقطع الطريق على محور الممانعة الذي يوظِّف القضايا العادلة والانسانية والمُحقّة بغرض تحقيق مآربه بمشروع سياسي لا علاقة له بالعدل ولا بالحق ولا بالسلام ولا بمنطق الدول.

الأمر الثاني: إخراج الدور العسكري لإيران من الشرق الأوسط، فلا أحد ضد دورها السياسي، ولكن هذا الدور القائم على ثنائية الدولة-الميليشيا أثبت بأنه مزعزع للاستقرار ومولِّد للفوضى، والتعايش معه غير ممكن.

فالمنطقة أمام مسارين: مسار قديم مولِّد للنزاعات والحروب والموت، وهذا يعني انّ مجازر غزة اليوم ستكون مجرّد فصل من فصول الحرب المفتوحة. ومسار جديد يُنهي الصراع التاريخي بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب وإسرائيل، وينزع من محور الممانعة ذريعة المقاومة، ويعيد الاعتبار لمشاريع الدول بإنهاء ارتباطها بالميليشيا، ويؤسِّس لدور عربي جديد هدفه تحويل الشرق الأوسط إلى أوروبا الجديدة.

فهناك فرصة حياة من قلب مشهد الموت في غزة، وهذه الفرصة يمكن ان تتحوّل إلى واقع وحقيقة، والرهان الكبير على دور المملكة العربية السعودية من أجل تحويل حرب غزة إلى آخر الحروب وإعادة تشكيل المنطقة وتأسيسها على أسس جديدة قوامها السلام والاستقرار والازدهار.