إن النظرة المتعجلة للتدخل الروسي عسكرياً في سورية تكتفي بإعطاء انطباع بأنها غيرت معادلة القوى القائمة في المنطقة بالكامل كما كشفت إلى حد كبير ضعف إدارة أوباما وتراجع الدور الأميركي. ولكن الغوص في أعماق ما جرى يقودنا إلى ضرورة استدعاء تاريخ الدور الروسي في المنطقة، ولقد قرأنا في كتب العلاقات الدولية أن «الدب الروسي» كان يسعى دائماً للوصول إلى المياه الدافئة في شرق روسيا وجنوبها وغربها، وعندما هزمت اليابان روسيا عام 1905 لم يلبث الحكم القيصري طويلاً حيث انتهى بإعدام أسرة رومانوف بفعل الأحداث الدموية للثورة البلشفية، وعندما تكسرت قوة الجيش النازي على الأرض الروسية، كان ذلك إيذاناً بصحوة «الدب» وانفتاح شهيته في مواجهة التطورات الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة التي اعتمدت على اختلاف الأنظمة بين المعسكرين عندما قادت الدولة السوفياتية باسم الأيديولوجية وغطائها السياسي حلفاءها في شرق أوروبا والأقاليم الروسية في الجنوب، فضلاً عن منطقتي البلقان والشرق الأوسط، وظهرت موسكو بمظهر الداعم لحركات التحرر الوطني والمناوئة لـ «الإمبريالية الغربية» كما كانت تسميها، بل دخل السوفيات إلى المنطقة العربية بقوة من بوابة مصر عبدالناصر ولعبوا على الخلاف بينه وبين الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً، كما لعبوا على الصراع بينه وبين الأنظمة التقليدية في العالم العربي لأن «الدب» كان يعاني دائماً من البحار المغلقة والمياه المتجمدة ويبحث عن شواطئ البحر الأبيص المتوسط وغيره من البحار المفتوحة، فهو إذاً حلم قديم بالتواجد في منطقة الشرق الأوسط على مقربة من تطلعات موسكو وأهدافها عبر القرون الماضية، ولا بد أن نستوعب هنا عدداً من الملاحظات:
أولاً: تضرب العلاقات التاريخية بين روسيا القيصرية والشعوب الإسلامية بجذورها إلى قرون عدة، إذ إنه فضلاً عن دول الجوار الإسلامية مثل إيران وتركيا فإن هناك شعوباً إسلامية اندمجت في كيان الدولة الروسية الكبيرة وأصبحت جزءاً منها في ظل روسيا السوفياتية، حيث كان الغطاء الأيديولوجي المتمثل في اعتناق النظرية الماركسية يمثل رابطاً بين مكونات الاتحاد السوفياتي، بغض النظر عن القوميات والديانات والثقافات الفرعية، ولكن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن روسيا كانت تنظر بحذر إلى الأقليات الإسلامية في داخلها قبل اندلاع حركة المقاومة في الشيشان، كما أن روسيا، باعتبارها دولة أرثوذكسية كبرى، كانت تشعر برباط خاص مع المسيحيين العرب عموماً وأتباع الكنيسة الارثوذكسية خصوصاً، حتى أن القيصر الروسي أوفد قنصل بلاده في مصر أثناء القرن التاسع عشر ليقابل البابا كيرلس الخامس ويبلغه رغبة القيصر في أن يكون أقباط مصر تحت حمايته ولكن البابا الوطني رد بحكمة بالغة قائلاً للمبعوث الروسي: هل القيصر يعيش أبداً أم أنه يموت كسائر البشر؟ فأجابه القنصل الروسي: بل هو حاكم البلاد يعيش ويموت. فرد كيرلس الخامس: إن الأقباط المصريين في حماية من لا يموت أبداً وهو الرب الذي يحمينا! وتوضح هذه النقطة الرغبة الروسية الكامنة في الامتداد والسيطرة حتى قبل مجيء روسيا السوفياتية التي تواجدت في المنطقة بعد ذلك، فقد كان الروس يريدون أن يكونوا حماة الأقباط الأرثوذكس مثلما أن الفرنسيين هم حماة الموارنة في لبنان على سبيل المثال.
ثانياً: إن التواجد السوفياتي في المنطقة العربية قد بدأ مع أجواء الحرب الباردة وسيطر على سياسات كثير من الدول العربية وفي مقدمها مصر، إذ إن البوابة المصرية هي التي دخل منها الروس في عهد عبدالناصر إلى أن خرجوا من البوابة ذاتها في عهد السادات عندما أنهى فجأة وجود الخبراء السوفيات في الجيش المصري ليدخل الحرب مع إسرائيل من دونهم عام 1973، ولقد جاء على مصر زمن، عندما كانت القوات المسلحة المصرية تحتفل بذكرى ميلاد فلاديمير لينين حيث كان التغلغل الواضح للسوفيات في ذلك الوقت إلا أن إنهاء وجودهم لم يستغرق أكثر من ساعات محدودة، ولا ينسى الروس ذلك أبداً وما زالوا يحتفظون بنوع من المرارة تجاه السادات بسبب قراره المفاجئ حينذاك، لذلك فإنهم يتبعون الآن أسلوب إقامة القواعد العسكرية البحرية إذا ما تيسر لهم ذلك بالقرب من المياه الدافئة، وهذا ما حدث مع سورية حيث تمكنوا من الحصول عليها في اللاذقية على ساحل البحر المتوسط. ويفسر الكثيرون التدخل الروسي الحالي بالرغبة في الاحتفاظ بتلك القاعدة البحرية الباقية لهم في الشرق الأوسط.
ثالثاً: لقد استمر الروس سياسياً في سورية من خلال حكم أسرة الأسد واضعين في الاعتبار القرب الجغرافي نسبياً بين موسكو ودمشق، فضلاً عن أهمية سورية البالغة من الناحية الاستراتيجية، لذلك جاء التدخل العسكري الروسي الأخير لضمان استمرار حكم الأسد أو بديله من بين من يؤمنون بأهمية العلاقة مع موسكو واستمرار التواجد العسكري داخل الدولة السورية بغض النظر عن حجمها حتى ولو تحولت إلى شريط ساحلي يرتبط بالعاصمة دمشق من دون اعتبار لتماسك الدولة السورية التي عرفناها في المئة عام الأخيرة.
رابعاً: إن الايرانيين لاعب رئيس في العلاقات مع سورية وقد كان الرئيس الراحل حافظ الأسد يستخدمهم مثلما حدث أثناء الحرب العراقية الإيرانية ورأى الرئيس السوري البعثي أنها فرصته لتصفية حساباته مع جناح حزب البعث في العراق بقيادة صدام حسين، فدعمت سورية وهي الدولة العربية إيران أثناء حربها مع العراق والتي استمرت قرابة ثماني سنوات، ونضيف إلى ذلك طبيعة العلاقات المذهبية بين شيعة إيران والعلويين في سورية وبذلك تعززت العلاقات بين طهران ودمشق على نحو غير مسبوق حتى تمكن السفير الإيراني في دمشق من رعاية «حزب الله» في لبنان أثناء نشأته وبدايات تكوينه لأن سورية كانت تسيطر على لبنان حينذاك، وهو السفير الإيراني الذي فقد أصابعه بطرد ملغوم ثم أصبح هو الراعي الأول لميلاد ذلك الحزب الذي يمثل المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل مع ارتباط كامل بالدولة الإيرانية.
خامساً: إن بوتين وجدها فرصة تاريخية ليوجه صفعة للإدارة الأميركية الضعيفة بقيادة باراك أوباما وسياسته المترددة في الشرق الأوسط وانعدام رغبته في حسم الصراع على أرض سورية، حيث ترك نظام الأسد من دون تحديد مستقبله وضمان مخرج لنظام الرئيس السوري وهو الحليف الروسي الأول في المنطقة لأن موسكو تدرك أن غياب الأسد وحدوث تغيير ضخم على أنقاض الدولة السورية سوف يطيحان المصالح الروسية في المنطقة كلها، لذلك كان قرار بوتين بالتدخل العسكري من دون تردد خصوصاً في ظل حسابات علوية تدرك أن التدخل الروسي المفاجئ سوف يحقق نتائج خاطفة وقد تقف واشنطن المترددة في حالة عجز عن المواجهة، ثم إن هناك تبريراً قوياً وجاهزاً للتدخل الروسي يتمثل في الرغبة في ضرب «الإرهاب» في المنطقة وتصفية حركة «داعش» وغيرها من جماعات «الإرهاب» التي عجز التحالف الغربي عن تصفيتها.
ولقد غلفت موسكو هدفها في الحفاظ على مصالحها في سورية بمهمة دولية كبرى وهي مواجهة المد الإرهابي تحت مظلة الإسلام في المشرق العربي وتداعياته الحزينة على الأقليات المسيحية والايزيدية وغيرها ممن تعرضت لعمليات التهجير القسري مع فرض الجزية عليهم وخطف نسائهم وقتل المئات منهم.
سادساً: إن فلاديمير بوتين يدشن زعامته في المنطقة ويفرض وجوده على نحو غير مسبوق في العقود الأخيرة ويعيد روسيا إلى مسرح الأحداث الدولية، خصوصاً بعد ما جرى في الأعوام الثلاثة الأخيرة من مواجهة في البلقان وعلى الحدود الروسية مباشرة حيث فرض بوتين إرادة بلاده وحقق بعض أهدافها، ويأتي تدخله العسكري حالياً في الشرق الأوسط ليؤكد به زعامته وحضور بلاده في المشهد السياسي الدولي بقوة لم تتحقق لها منذ عقود عدة، ولا يستطيع أوباما أن يتخذ مواقف حادة ويبرح موقعه وقد ترك وراءه تورطاً عسكرياً جديداً في المنطقة يذكر الجميع بما فعلته الولايات المتحدة الأميركية في العراق، ولا شك أن بوتين يراهن على الوضع العام دولياً وعلى الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها المترددة في المنطقة، وهنا نضيف نقطة أخرى يجب ألا تغيب عن البال وهي شعور روسيا بأن الدولة التركية قد ساعدت حركة «داعش» بخدمات لوجستية كبيرة فضلاً عن رغبة أنقرة الشديدة في الخلاص من نظام الأسد باعتبار ذلك هو الحل المطروح للأزمة السورية من وجهة نظر الأتراك.
سابعاً: إن التدخل الروسي يترك آثاراً ضخمة على الساحة الدولية تفوق بكثير كل التوقعات ويمثل مفاجأة قلبت موازين القوى وغيرت من حسابات الجميع وأدت إلى اختلاف في وجهات النظر داخل المجموعة العربية، فبينما رحب بعض الدول العربية بالموقف الروسي الجديد نظرت إليه دول عربية أخرى على أنه محاولة لتحقيق مكاسب روسية في المنطقة على حساب أمنها واستقرارها واستغلال لشعار «الحرب على الإرهاب» في تحقيق استمرار التواجد الروسي في سورية والإبقاء على نظام الأسد.
إن التدخل الروسي قد غير المعادلة تماماً في المنطقة وقلب المائدة على الكثيرين وكشف بوضوح تردد الموقف الأميركي وضعفه في هذه المرحلة وأعطى موسكو فرصة للإمساك بزمام المبادرة والتحكم بمستقبل هذه المنطقة ولو على المدى القصير. والأمر يحتاج من وجهة نظرنا إلى أخذه كلياً من منظور تاريخ العلاقات الروسية العربية وتطلعات موسكو لاستعادة دورها بقيادة بوتين. إن لما جرى جذوراً لا يمكن إغفالها، فالتاريخ يشرح الحاضر ويوضح المستقبل!