IMLebanon

وطن الإكراه المشترك

 

لم يعد متاحاً الاسترسال في ترداد جُمل العيش المشترك، ومفردات التساكن اللبناني، وشعار لبنان نهائي لكل أبنائه. المتاح، أو الواقعي، هو الإفصاح عن أن هذا البلد اللبناني الصغير، لم يقيض له أن ينتج المضمون الحقيقي لكل المواضيع الكلامية التي يتداولها مسؤولوه وبنوه، وما أنتجه هؤلاء حقاً، هو نقيض ما أعلنوه، ومنسجم بدرجات عالية مع ما يضمرونه من تعريف خاص لهوياتهم ولذواتهم ولأوطانهم، ولكيفية العيش في كل تجمع صغير يحلّون فيه.

لبنان اليوم لا يتجاوز تعريف أنه بلد بالإكراه، وأن المقيمين فيه يمشون في مناكبه مكرهين على التجاور وعلى تبادل السلع، وعلى التخاطب السياسي والاجتماعي، وعلى إلقاء التحية، بالسلام الصوتي، أو بالإشارة اليدوية.

وللإكراه دروب، وهو أصناف وضروب، كذلك فإن التراكم الإكراهي سلك مسالك خارجة على القانون العمومي، واتخذ لنفسه مساحات خصوصية بلورها بعناية، ورسم حدودها بدقة، وشحن النفوس الخصوصية الجمعية بشعارية تبقي العين الذاتية على الحصة في المغانم، وتبقي اليد على زناد الإطلاق، عندما يتعذر البقاء في حالة المراقبة «العينية». تشبه حياة اللبنانيين الإقامة في حصون متجاورة ومتقابلة، لكن سرعان ما تتحول هذه الحصون إلى «معازل» يسارع حراسها إلى إغلاق أبوابها، ومن خلف تلك الأبواب يعيد المعتزلون إنتاج أحكام جوارهم، هذا من دون أن تسقط من قواميسهم لغة المشاركة وصفات الوطنية، والتطلع الدائم إلى مبادئ الحرية والديموقراطية والاستقلال والعيش الكريم!

ولنعد إلى الإكراه الذي بات يحمل الكثير من بذور الكراهية، كراهية بعض اللبنانيين لبعضهم الآخر. رأس جبل الإكراه هو العيش في ظل نظام طائفي منغلق على بديهيات بائدة، وموصد في وجه احتمالات تجميله وإصلاحه، هذا قبل الحديث عن الوصول إلى زمن تغييره، أي الزمن الذي صار حلماً في مخيلة أجيال ماضية، وأجيال حاضرة، وسيظل حلماً في مخيلة من سيأتي من أجيال. النظام الموصوف هذا شكَّل وما زال، حاضنة إنتاج عوامل الانقسام اللبناني، وعناصر منع الاندماج، ومعطيات عرقلة كل تقدم، على كافة المستويات التي تنتسب إلى مجموع المصالح العمومية اللبنانية.

مصدر الإكراه الثاني، هو إقصاء النسق الرسمي، أو الدولة، عن أن يكون «ضابط إيقاع اجتماعي»، ومن ثم الحلول مكانه والنيابة عنه، في اتخاذ قرارات خطيرة تتعلق بالمصائر العامة للأفراد وللمجموع، من قبيل جعل الكتلة الأهلية المسلحة جيشاً رديفاً خارج السلطة الرسمية، واغتصاب حق إدارة العلاقات مع جهات خارجية، وقرار الحرب والسلم من فوق رؤوس اللبنانيين، ومن خلف ظهورهم ورغماً عن إرادتهم، ومن دون قدرة على الاعتراض، إذ إن كل سياسة تحاول تجاوز أفعال الإكراه الفئوية الأهلية، تلامس خطر تفجير البنية الداخلية، على غرار ما كان لهذه البنية من انفجارات متوالية. دول ضمن الدولة، إكراه جاثم على صدور إرادات اللبنانيين.

مصدر الإكراه الثالث، هو فرض التدهور الاقتصادي والاجتماعي على الكتلة الأوسع من اللبنانيين، ودفع الناس، بقوة النهب والإهمال والتخلي عن واجب تأمين مقومات «البداهة الحياتية»، إلى الإفقار، فإذا لامس المجموع حد الفقر، وتخطاه إلى ما دون عتبته، أكره هذا المجموع على الالتحاق الزبائني بأرباب النظام الطائفي، لتأمين بعض فتات من خدمات الطبابة أو التعليم أو العمل، بشروط مجحفة، وبكثير من الاستتباع والإذلال.

الزبائنية تفتح على باب الإكراه والكراهية، لأنها تتصل بالمحاصصة، أي بالسطو على المال العام، واستشراء الفساد، واستمرار التعديات على الحقوق الخاصة للأفراد وللجماعات، بقوة التسلط والتحكم، ومن خلال فرض أمر واقع إكراهي على جميع المتضررين. لقد صار عادياً تداول أخبار اعتداء المسلحين على أملاك خاصة من دون رادع، وبات شائعاً الحديث عن استئثار طائفة بعينها بمكاسب لا تتناسب ووضعها في التشكيلة الداخلية، وحرمان طائفة من مكاسب هي حق لها وفقاً للتراتبية المعمول بها تاريخياً في لبنان. تبدل التراتبية بالتسلط من جهة، وبأسلحة القهر من جهة أخرى، صار مصدر كره للذين صعدوا طائفياً، من قبل الذين يعاندون لعدم تسليم مقاعدهم ومراكزهم، لأسباب طائفية أيضاً. غني عن الشرح أن الطائفي يعادل الغُنْم في لبنان مثلما يعادل الغرم، وضمن هذه المعادلة وحولها، تدور رحى معارك نظامية وغير نظامية.

خلاصة مما تقدم، هل يمكن استفتاء اللبنانيين اليوم حول: هل ما زال لبنان هو الوطن الذي عرفوه أو أرادوه؟ وهل ما زال ابن الشمال يقيم على ذات الودّ مع ابن الجنوب؟ وماذا عن أبناء الجبل اللبناني ونظرتهم إلى الكيان الذي كانوا في أساس تأسيسه؟ وهل يرضى اللبنانيون بأن تدار أيامهم بشعار حرب مستمرة، وبشعار جمهورية معلقة؟ أم أن اللبنانيين كرهوا حياة الإجبار والإكراه؟ وهل العاصمة بيروت حاضنة تلاقح وتفاعل، أم بيئة تنافر وتنابذ؟

 

لنا أن نتوقع، أن الاستفتاء إذا تجاوز المجاملة الفولكلورية اللبنانية، سيكون صادماً!