ولا يزال لبنان تحت المجهر الدولي خلال معالجته للازمة الاقتصادية المتفاقمة والتي أظهرت عمق عجز الدولة وغياب الرؤية الجدّية للحلول، مما يدفع بالمسؤولين بالتهويل بالإفلاس الكامل، أسوة باليونان، تمهيداً لسلسة قرارات وتدابير اقل ما فيها انها غير شعبية، تعتمد اولا وآخرا على جيوب المواطن لسداد ديون انفقت في قنوات الهدر والنهب… فأية ثقة بالإصلاحات القادمة طالما المسؤولين عن الهدر والفساد هم نفسهم القيّمون على المحاسبة والإصلاح؟
اما التخبّط الحاصل اليوم حول رواتب القطاع العام والعسكريين خصوصا هو جزء من النتائج المترتبة على عشوائية القرارات، وأهمها سلسلة الرتب والرواتب التي اقرت دون تأمين تمويلها، فقد زادت التضخم والعجز دون ان يصحبها أية خطط لتشجيع الاستثمارات وزيادة عائدات الشركات الخاصة من جهة، ولم يتم ضبط الهدر في القطاع العام لرفع ايرادات الدولة وتصويب مسار المداخيل لخدمة اصحاب الدخل المحدود.. فكانت النتيجة عند اول اهتزاز ان تحولت الأنظار الى جيوب المواطن، فبات التخطيط حول كيفية استعادة ما تم إعطاؤه تحت اسماء وحجج مختلفة، دون ان تكون من خطط جدية لمكافحة الفساد وتحسين التحصيل لتعزيز مداخيل الدولة، بعيدا عن المحسوبيات والمحاصصات، علما ان شعار مكافحة الفساد الذي تم تبنيه تحت ضغط المجتمع الدولي، لم يكن ليوضع حيز التنفيذ لولا وجود لبنان تحت المجهر الدولي كشرط للحصول على أموال سيدر، حيث المكافحة باتت تعني تقليص الفساد ولكن لا بوادر جدية لاقتلاعه من جذوره، كون المتهم هو الجلاد !
اما حكاية الموازنة وإبريق الزيت، فلا تختلف كثيرا بما ان الخيوط مترابطة فيما بينها، وموازنة الأزمات الاقتصادية لا بد ان تضع خططاً اصلاحية اولا وإنمائية ثانيا، واضحة للرأي العام، تحدد مسؤولية الدولة تجاه المواطن وحقوق وواجبات هذا الأخير ودوره في حل هذه الازمة، لا ان يعتمد الأسلوب الحالي في تسريب قرار من هنا وتقسيط اعلان التدابير من هناك حتى يسهل التراجع في حال خرجت ردود الفعل عن السيطرة، كما يحصل مع العسكريين المتقاعدين والقطاع العمالي ومؤخرا مع موظفي المصرف المركزي!
انها أزمة جدية لا نرى في مواجهتها سوى تخبط رسمي يحاول ارضاء المجتمع الدولي لتحصيل الأموال دون ان يمس بمصالحه الخاصة وصفقاته من مقدرات الدولة، دون ان تدخل مالية البلد وقدرة المواطن على الصمود في أولوياتها، ولا خطط علمية جدية للحد من الاعتماد على القطاع المصرفي بشكل كامل كما يحصل اليوم، والذي بات مصير لبنان المالي مرتبطاً به، دون ان يتحلى هذا القطاع بالقدرة على خلق فرص عمل والاستثمار بمشاريع إنمائية والاكتفاء بدفع فوائد عالية على الإيداعات المالية بسبب الازمة الخانقة مما يبطئ حركة الدورة الاقتصادية، والتي هي مسؤولية الدولة بالدرجة الاولى، مما يعزز الشعور بدخول هذه الدولة في دائرة العجز المغلقة مع انعدام الثقة بالنوايا والأفعال، فبات استقرار الشارع مهددا اذا ما شعر اللبناني ان قدرته على التحمل تم استنزافها بالإهمال الرسمي وغيابه عن سلم أولويات المسؤولين، فعلا لا قولا…
فالتقشف لا بد ان يبدأ عند الذين استباحوا المال العام في صفقات حينا، وفي هدر احيانا، يستغلون مواقعهم للإسراف بمعدلات فاقت أغنى الدول، من مصاريف سفر للوفود وايجارات للمباني الرسمية والسفارات وصولا لرواتب خيالية لهيئات غير فاعلة وصولا الى الأملاك البحرية وما الى ذلك من حقوق للدولة اللبنانية اهدرت بسبب المحاصصة وتقاسم الصفقات بين اللاعبين الأساسيين، والأهم مع غياب بوادر تغيير هذا الواقع، حيث الفساد والهدر مستمران، ولو بوتيرة مختلفة، ولبنان باق معبراً لا مقراً لمشاريع دولية إنمائية عديدة في المنطقة بسبب انعدام الثقة بالمسؤولين وغياب المحاسبة لهم!