يبدو أنّ شهرَ، أو أشهُرَ العسل السياسي كلّها قد انتهت، وعادت النار تحت رماد العلاقات السياسية كلّها، تُنذر باشتعالات وحرائق متفرّقة، في أيّ لحظة، على امتداد الخريطة السياسية الداخلية، المتوزّعة حالياً بين أربع ضفاف.
في الضفّة الأولى، تتبدّى ثلاث صور، تُظهر الأولى درجة انسجام ملحوظة بين الرئاسات الثلاث، ودفئاً واضحاً في العلاقة بين الرئيس نبيه بري والرئيس سعد الحريري. وفي الثانية، يتبدّى وقفُ إطلاق نار بين «التيار الوطني الحر» وحركة «أمل»، ما يزال ساريَ المفعول حتى الآن، منذ أن وضَع الطرفان كلَّ عناصر الخلاف والتباين بينهما على الرفّ، إلّا إذا طرَأ في لحظةٍ ما، ما يستدعي إنزالَ تلك العناصر الى حلبةِ الاشتباك.
وأمّا الصورة الثالثة فتشي بما يُشبه «مراوحة ما بعد انتهاء شهر العسل»، تحكم العلاقة بين «التيار» و«لقوات اللبنانية»، التي انتفَت فيها كلّ مظاهر العشق والغرام بينهما بعد تعرُّضِ هذه العلاقة لشيء من التفسّخ في محطات لها علاقة بالتعيينات و«الجوع» على توظيف مقرّبين من التيّار دون غيرهم، والصفقات الملتبسة أو التي هي محلّ شبهة كصفقة بواخر الكهرباء، وكذلك بالخيارات السياسية ببُعديها المحلي والإقليمي، والتي يندرج في سياقها لقاء وزير الخارجية جبران باسيل بوزير الخارجية السوري وليد المعلّم.
وفي الضفّة الثانية، تبدو جليّةً علاقة «حُسن الجوار» بين الحريري و«حزب الله»، محكومةً باتفاق غيرِ معلَن بينهما على «وقفِ الاعتداء» بينهما. إلّا أنّه يتعرّض لخروقات قاسية بين الحزب وتيار المستقبل، ومن دون أن يتمدّد إلى العلاقة بين الحزب والحريري، المحكومة بخطاب هادئ يقال مباشرةً أو بالمراسلات عبر قنوات التواصل بينهما، وكذلك بتقييم إيجابي للأداء، ويبدو أنّ ثمَّة قراراً من قبَل الجانبَين بعدم استفزاز الآخر، حيث يبدو الطرفان متفقَين على اعتماد سياسة الإسفنجة لامتصاص كلّ الصدمات من هذا الجانب أو ذاك.
والحزب مرتاح « للقرار الجريء بإعطاء الأذن الطرشاء لبعض التغريدات التوتيرية، والالتزام بسقف الأولويات الداخلية التي تبدأ وتنتهي عند الحفاظ على الاستقرار وانتظام عمل المؤسسات».
وفي الضفّة الثالثة، تتمركز علاقة ثابتة في مربّع الاشتباك بين التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي، تضربها من وقتٍ إلى آخر موجاتٌ من التصعيد السياسي، وتندرج في سياقها تغريدةُ النائب وليد جنبلاط، ولا سيّما تلك التي توجَّه فيها إلى وزراء اللقاء الديموقراطي محذّراً من صفقةِ بواخر الكهرباء بقوله: «السفن التركية هي مأساة الوطن»، ومنبِّهاً :«لا تدَعوا الشيطان يَدخل في التفاصيل أي أن تكون وزارة الخارجية مسؤولة عن الصوت الاغترابي»، وكذلك التغريدة الأخيرة التي تلَت زيارة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل إلى رشميا وحديثه عن عدم اكتمال مصالحة الجبل، والتي توجَّه فيها جنبلاط بالسلام على «بطريرك السلام مار نصرالله بطرس صفير» وعلى «بطريرك المحبّة مار بشارة بطرس الراعي».
وعلى حافّة هذه العلاقة، هناك من يتساءَل: بصرفِ النظر عمّا إذا كان التصعيد بين التيار والاشتراكي تعبيراً عن مكنونات، أو عن انعدام الكيميا الشخصية أو السياسية، أو عن افتراق في المساحة المشتركة بينهما التي هي جبلُ لبنان، أو عن خلاف استراتيجي له علاقة بملفات داخلية وخارجية، لماذا اختار باسيل أن يَنكأ الجرحَ في هذا التوقيت، وأيّ مصلحة في ذلك؟
وأمّا في الضفّة الرابعة، فتسير علاقة التيار الوطني الحر وتيار المستقبل على حافّة السقوط في هاويةٍ سياسية، هذا ما يَشي به الاشتباك الحاد بين وزيرَي الداخلية نهاد المشنوق والخارجية جبران باسيل، وأيضاً ما يُقال ضِمناً في أوساط الطرفين من كلام أكثر حدّيةً ممّا يقال علناً.
وإذا كان لقاء باسيل بالمعلّم قد رَفع متراساً عالياً بين التيارَين وألقى مساحةً واسعة من الحذر بينهما، فإنّ مجموعةً من المتاريس، وعلى ما يقول عارفون، قد سبقَ وارتفعت في أوقات مختلفة منذ انطلاقة الحكومة جرّاء «أداء» استفزّ رئيس الحكومة، ووُصف بـ»الفوقي الذي يريد كلّ شيء»، وتمّ التعبير عن الشكوى منه في الغرَف المغلقة والصالونات الخاصة ومجالس مسؤولين وسياسيين على السواء.
الواضح في هذه العلاقة المأزومة، أنّ رئيس الحكومة حريص على أن يُحيّد انعكاسات الاشتباك بين تياره وتيار باسيل، عن علاقته المباشرة برئيس الجمهورية ميشال عون. هناك من يقول إنّ التسوية التي جاءت بعون رئيساً للجمهورية ما زالت صامدة، كما أنّ التسوية الإقليمية التي جاءت بالحريري رئيساً للحكومة ما زالت صامدةً بدورها، ويالتالي يبدو الطرَفان متمسّكَين بـ»التسويتين» أقلّه حتى إشعارٍ آخر، وهناك أيضاً من يقول إنّ الأجواء بين التيارَين لن تتأثر بغيوم صيفية، حتى ولو كانت السحب سوداء حالكة، إذ إنّ كلّ هذه الغيوم تسقط أمام ما هو أقوى منها، أي «اتّفاق نادر – جبران» الذي تنفَّذ مندرجاته كما هو مرسوم لها.
ولكن هناك في المقابل من باتَ يخشى من أنّ تراكُم أسباب التصعيد، وتراكُم النيران السياسية حول مجموعة من العناوين والانطلاقَ الدائم للشرارات، مِن شأنه في لحظةٍ معيّنة أن يَطويَ هذه الصفحة ويَدفع بالأمور في اتّجاه واقعٍ جديد قد تكون له انعكاسات غير محمودة.
هنا يَبرز السؤال، هل يمكن أن تصل الأمور إلى هذا الحدّ؟
في جوابها، تُسجّل شخصية مسؤولة ملاحظتين؛ الأولى، أنّ التيار الوطني الحر بقيادة باسيل فاقَ كلَّ القوى السياسية الأخرى في الانتقال من توتير إلى آخر، ومن اشتباك حادّ إلى اشتباك أكثر حدّةً مع قوى سياسية مختلفة، وفي الوقت الذي توجب فيه الظروف الداخلية والمساكَنة السياسية أن يلتقي معها ولو من باب أولوية المصالح.
وأمّا الملاحظة الثانية، فإنّ القلوب المليانة حالياً، ستبقى مليانة، إنّما من دون أن تتفجّر على نحو يقلبُ موازينَ أو قواعد العلاقة بين الطرفين، فالرئيس الحريري ومِن خلفه تيار المستقبل – أقلّه حتى الآن – لا يريد انحدار الأمور إلى اشتباك كبير قد يطالُ كلَّ شيء بما في ذلك الحكومة، والأولويةُ لديه ليس فقط الحفاظ على الحكومة الحالية، بل وحكومة ما بعد الانتخابات، وبالتالي سيبقى الاشتباك مضبوطاً وتحت السيطرة، إلّا إذا وجَد الحريري نفسَه في موقعِ غيرِ القادر على التحمّل، فعندها أولى الضحايا ستكون الحكومة.
وبالتأكيد فإنّ الضَرر في هذه الحالة لن يطالَ الحريري فقط، ولا تيار باسيل فقط، بل رئيس الجمهورية الذي صار يَعتبر الحكومة الحالية هي حكومة العهد، والذي قد يجد نفسَه أمام أزمةِ تشكيل حكومةٍ من جديد. علماً أنّ في يد رئيس الجمهورية دلوَ المياهِ لإطفاء شرارات التوتير والاشتعال المتصاعدة، سواء بين التيارين، أو بين التيار الحر وسائر الآخرين.