وقف النار لا يقل خطورة عن إطلاق النار. جحيم المعارك يمنع الرؤية ويحجب الصورة. يشحذ الأحقاد والآمال. استحالة الضربة القاضية تذكر بالتوازنات المريرة. صمت المدافع والبراميل يفتح العينين. يضع من كان يوصف بالمواطن وجهاً لوجه أمام ما كانت توصف بأنها بلاده. أمام ما تبقى منها. ابتهاج الناس باستراحة آلة القتل لا يلغي حقيقة مدمرة. الشهيد الأول في سورية اسمه سورية.
وقف النار مطلوب لكنه رهيب. يسمح للمواطن بالشروع في الإحصاءات. المدن التي اغتيلت. البلدات التي تبخرت. القرى المسكونة برائحة الموت والغياب. ستتذكر عائلة ابنها الذي ذهب ولم يعد. ابنها الذي لن يعود. ستتذكر نصفها التائه في أوروبا أو مخيمات الدول المجاورة. ستتحسس أم صورة نجلها الذي أخذوه. ستصلي لعودته وهي تعرف أن شمس عمرها ستغرب من دون أن تعانقه.
وقف النار رهيب. سيتحدث السوريون تحت أطلال منازلهم عن نهر من القتلى. وبحر من الجرحى والمعاقين. وعن اللاجئين الذين يتعلقون بأطراف مركل هرباً من قسوة بلاد الأمويين. عن لاجئين سيطول انتظارهم لأن إعادة إعمار سورية أكبر بكثير من قدرة الذين منعوا حسم الحرب.
وقف النار رهيب. لأن الحرب ستستمر تحت عناوين أخرى. لا «داعش» يرف له جفن إذا تدمر ما بقي. ولا «النصرة» يرف لها جفن. ثم أن سورية الجديدة التي ستولد من المفاوضات ومناوراتها وأفخاخها قد لا تستحق هذا البحر من الدم والركام.
أنا لا ألوم السوريين الذين ارتكبوا حلم التغيير وتدفقوا إلى الشوارع والساحات. هذا حقهم وقرارهم. لكن مسار الأحداث أوقعهم في قلب المأساة. اغتال «داعش» وأخواته شعارات التغيير والتهموا مواقع المحتجين ولم يبخل النظام عليهم بالغارات والبراميل.
ذهبت سورية إلى الحرب وخسرت كل شيء تقريباً. حصانتها. وسيادتها. وتعايشها. وقرارها. سقطت تحت وصايات أبرزها الوصاية الروسية. المستقبل السوري يُكتب اليوم بحبر لافروف ومصادقة كيري.
انتهت سورية التي يعرفها القارئ العربي ويحبها. سورية العربية المتعددة التي لا بد من طرق بابها للبحث في مستقبل الأمن والاستقرار في جوارها. سورية التي يتقاطر إليها المسؤولون الأجانب للبحث في تسوية النزاع العربي – الإسرائيلي أو أمن العراق واستقرار لبنان. سورية التي كانت لاعباً صارت ملعباً. كل أنواع المقاتلين على أرضها. كل أنواع الطائرات في أجوائها.
يذهب المقاتلون إلى الحرب مجروحين أو حاقدين. يطلقون الرصاصة الأولى مثقلين بأحلام واسعة وأوهام كثيرة. يراهنون على الضربة القاضية. وإسقاط النظام. وانتصار الثورة. أو إجهاض المؤامرة. وقصم ظهر الإرهابيين. لكن الرصاصة الأولى لا ترسم مسار الحرب. خصوصاً إذا تحصن النظام بمكون وحلفاء، وتحصنت المعارضة بآخر وأصدقاء. وإذا سقطت حصانة البلد واستدعى كل فريق حلفاءه الأقرب إلى ميوله وثاراته ومذهبه ومصالحه. ويزداد المشهد تعقيداً حين يختلط الاقتتال الداخلي بدم الميليشيات العابرة للحدود ومطامع الدول الكبرى ومناوراتها.
لحظة وقف النار بالغة القسوة. في عز الحرب لا يشتهيها أحد من المحاربين. ربما لأنها بطبيعتها تُعلن العجز عن الانتصار. وربما لأنها تشير أيضاً إلى أن النتائج قد لا تبرر الخسائر.
سألت سورياً تحصن في السنوات الماضية بصفة المراقب. قال إن سورية ما بعد وقف النار لن تشبه ما كانت عليه قبل اندلاع النار في أرجائها. شدد على أن أكراد ما بعد وقف النار هم غير الأكراد السابقين والأمر نفسه بالنسبة إلى السنة والعلويين. الجروح كثيرة والمخاوف كبيرة والنسيج تمزق. واعتبر أن بقاء سورية موحدة مرهون بولادة أقاليم معلنة أو مضمرة تقيم في كنف دولة مركزية ضعيفة. شيء من العراق وشيء من لبنان.
قال أيضاً أن نجوم المرحلة المقبلة ثلاثة هم فلاديمير بوتين وأبو محمد العدناني الوكيل السوري للبغدادي وأبو محمد الجولاني. ورأى أن مستقبل سورية معلق بقرارات القيصر. وحده القادر على برمجة جرعات السم وتوزيعها على المدعوين من موالين ومعارضين. على الأعداء والحلفاء. وفي غضون ذلك سيطرح وقف النار على جهات كثيرة سؤالاً بالغ الصعوبة هو «ماذا فعلت في سورية؟».
يبرمج الكرملين لعبة توزيع الطعنات والضمادات والضمانات على اللاعبين المحليين والخارجيين. تحتاج سورية إلى وقف القتل. لكن من المبكر الحديث عن وقف نهائي لإطلاق النار. القيصر يحتاجه للفتك بأعدائه وتقليم أظافر أصدقائه. خسرت المعارضة حلمها باقتحام معقل النظام. خسر النظام حلمه باستعادة كل المناطق. يجمد وقف النار حلم الأكراد باستكمال رسم إقليمهم. حين يقدم لك القيصر كأس السم لا يبقى أمامك غير أن تشرب.