بعد تراجع نشاطه 90% ومداخيله 80% في العامين الماضيين…
طبعت مجموعة واسعة من الفنادق اللبنانية عبر السنوات ذاكرة لبنان السياحية بطابعها، إذ لطالما كان القطاع الفندقي اللبناني مرآة عاكسة عن صورة البلد الجميل. ولنا أن نذكر مثلاً فنادق الواجهة البحرية لبيروت، وبعلبك ودير القمر وبيت الدين وصيدا وزحلة… الشاهد على ذلك هو جذب الآلاف المؤلفة من السياح العرب والأجانب قبل وخلال وبعد الحرب الأهلية. لكن الأحداث التي لا تستكين في بلاد الأرز فعلت فعلها معطوفة على الإهمال الرسمي للقطاع إن لناحية تشجيع الاستثمار فيه أو إصلاح ما “تهدّم”. اليوم، ومع اشتداد الأزمات الصحية والاقتصادية والسياسية والديبلوماسية على حدّ سواء، ها هو القطاع يعاني أكثر من أي وقت مضى من نزف سوف يضاعف من تقهقره خاصة إن بقي الأمل بتحقّق شيء من الاستقرار والنهوض الاقتصادي مجرد أضغاث أحلام.
أزمات لا تنتهي والدولار الفندقي بين الحلّ و”التذاكي”
باكورة الأزمات الكبرى التي عصفت بالقطاع خلال العقد الأخير تمثلت باندلاع الحرب السورية عام 2011. فبحسب نقيب أصحاب الفنادق، السيد بيار الأشقر، خسر لبنان حوالى 350 ألف سائح كانوا يقصدونه سنوياً من مختلف الدول العربية، من بينهم على وجه الخصوص 200 ألف سائح من الأردن والباقون من العراق ودول الخليج. وأتت هذه الخسارة كنتيجة طبيعية لتدخّل أفرقاء لبنانيين بصورة أو بأخرى في تلك الحرب ورفع البعض شعارات معادية لدول الخليج، مما أدّى إلى منع الكثير من تلك الدول رعاياها من السفر إلى لبنان. وبعد انطلاق العهد الرئاسي الحالي عام 2016، برز تركيز على الأسواق الأوروبية عبر حملات عديدة منها حملة “Visit Lebanon” في تجاهل لدور دول الخليج المحوري في تفعيل السياحة في لبنان وتنشيطها. وبالأرقام، تراجع القطاع بنسبة تقارب 40% مقارنة مع ما كان عليه في العام 2010.
وكأن ذلك لم يكن كافياً. فقد راحت التوترات تتناسل تباعاً في السنوات الأخيرة بدءاً بمفاعيل ثورة تشرين وجائحة كورونا بحيث سجّل القطاع تراجعاً إضافياً بنسبة 90%، مروراً بتدحرج الأزمة الاقتصادية وتداعيات انفجار مرفأ بيروت حيث تدنّت المداخيل 80%، وصولاً إلى أزمة الكهرباء والمحروقات التي وجّهت إلى القطاع “ضربة في الصميم”. ولأن المصائب لا تأتي فرادى، أطلت الأزمة الديبلوماسية الراهنة مع السعودية وبعض دول الخليج الأخرى مهددة بالإطاحة بما تبقى.
هذه الأسباب مجتمعة أرغمت بعض الفنادق على الإقفال الجزئي أو الكلّي كما إلى صرف أو تقليص أعداد الموظفين. وهو ما ساهم بازدياد معدّل البطالة وبإبطاء إضافي للعجلة الاقتصادية المترنحة أصلاً بسبب تراجع الطلب على الحجوزات وإلغاء الكثير منها. في حين أن أزمة شح المحروقات أولاً وارتفاع أسعارها لاحقاً جعلت قدرة التحمل شبه معدومة لدى من عقد العزم على الاستمرار من الفنادق. فغياب الخطط التنظيمية والدعم الحكومي من قبل حكومات “خارج التغطية” انعكس زيادة على الكلفة التشغيلية وبالتالي أسعار حجوزات الغرف.
ويشير الأشقر في هذا السياق أنه، وبعد انفجار المرفأ، أقفلت حوالى 2000 غرفة فندقية إقفالاً كلياً في حين علّق حوالى 560 فندقاً نشاطه جزئياً. وكانت بعض أبرز فنادق العاصمة قد أغلقت أبوابها بسبب الأضرار التي لحقت بها جرّاء الانفجار، مثل فينيسيا، فورسيزنز، ولوغراي.
ثم جاء إصدار وزير السياحة السابق رمزي مشرفية قراراً في أيار الماضي سمح فيه للفنادق بتقاضي تعرفة الغرف بالدولار الفريش من السياح الأجانب مع الإبقاء على التسعيرة بالليرة اللبنانية للبنانيين المقيمين والمغتربين. وأتى قرار الدولار الفندقي ضمن مساع لتفعيل قطاع السياحة ككل ومدّه بالعملات الصعبة لمساعدة المؤسسات على تسديد مصاريفها بالدولار. لكن على الرغم من ترحيب الكثيرين بتلك الخطوة، إلا أن بعض المحللين الاقتصاديين أعربوا عن خشيتهم من أنّ يكرس هذا الحل نوعاً من ازدواجية المعايير تشعر السائح الأجنبي بالإجحاف ما يدفعه مستقبلاً لاختيار وجهات سياحية أخرى. وبالتالي فالأرباح التي قد تتحقق هذا الموسم سوف تلغى مفاعيلها من خلال تراجع وتيرة الحجوزات في المواسم المقبلة.
تزايد عدد الحجوزات صيفاً رغم الوضع الاقتصادي
هنا تجدر الإشارة إلى الارتفاع الملفت في عدد الحجوزات الفندقية بين حزيران وأيلول الماضيين رغم الحالة الاقتصادية المتراجعة عامة. وعن الأسباب يجيب السيد نيكولا الحايك، صاحب فندق المرجان بالاس: “كان موسم الصيف الماضي موسماً واعداً بسبب جهوزية القطاع لمواجهة جائحة كورونا، نظراً لارتفاع أعداد الملقحين من جهة وتراجع عدد الإصابات من جهة ثانية. كذلك فإن انهيار سعر صرف الليرة ساهم في تقليص تكاليف السفر إلى لبنان، إذ أصبح بإمكان السائح القيام بنفس النشاطات التي كان يقوم بها قبل الأزمة ولكن بسعر أقلّ”. هنا يلفت الأشقر إلى أن ما شهده البلد الصيف الماضي هو عبارة عن طفرة سياحية مقوماتها السائح اللبناني مع المغتربين ورجال الأعمال، إذ لا يمكن الحديث عن وجود سياحة فعلية. ويضيف أن هناك حوالى 650 ألف لبناني يزورون تركيا سنوياً حوّلوا وجهتهم إلى السياحة الداخلية نظراً لارتفاع تكاليف السفر والأخطار الصحية، ما نشّط عمل بيوت الضيافة على جميع الأراضي اللبنانية، وجعل من مناطق كانت مجهولة سياحياً – نذكر منها على سبيل المثال الضنيّة وعكار ودوما – وجهة سياحية للكثير من المقيمين وغير المقيمين على السواء. مع الإشارة إلى أن بيوت الضيافة هذه لا يزيد عدد غرف الواحدة منها عادة عن 7 إلى 10 غرف، وعليه لا يمكن مقارنة حجم عملها مع حجم عمل الفنادق الكبرى التي لا يقلّ عدد غرف كل منها عن الـ50 غرفة.
أمّا عن نسبة الحجوزات السنة الماضية خلال فترة عيدي الميلاد ورأس السنة، أشار الحايك إلى أن الأرقام كانت أفضل بكثير من مثيلاتها لعام 2019. فطبيعة اللبنانيين تحثهم دوماً على السهر لا سيّما ليلة رأس السنة، لكن ذلك للأسف لا يقارن مع ما كان يتحقق قبل 2019. ويضيف أنه في حين تحسن الأداء أواخر السنة الماضية بنسبة 25%، إلا أن لا توقعات محددة لفترة الأعياد المقبلة كون الجميع في حالة ترقّب إن من حيث البرامج الترفيهية أو الحفلات، نظراً للارتفاع الكبير في أسعار المأكولات والمشروبات وتراجع القدرة الشرائية لدى المواطن. هذا بدون أن ننسى التخوّف من استعار موجة جديدة من تفشي فيروس كورونا. ويبقى العامل الأساسي قدرة المغترب اللبناني على المجيء لتمضية عطلة الأعياد في لبنان في ظلّ الظروف الراهنة وما قد ينتج عن ذلك من تفعيل للسياحة الشتوية التي أطلقت حملتها الشهر الحالي.
السياحة الشتوية أُطلقت… فهل يأتي السياح؟
لا يختلف اثنان أن القطاع الفندقي بحاجة إلى خطط تمكين لتعيد إليه ألقه. فنقابة أصحاب الفنادق كانت ولا تزال تطالب دورياً بتفعيل رزم سياحية بأسعار مشجعة. وما العروضات المقدمة من جميع الأطراف المعنية سوى دليل واضح على جدية العمل على إبصار المبادرات النور. لكن تبقى العبرة في استدامة هذه المبادرات بهدف الاستفادة من إمكانيات لبنان السياحية، الصيفية والشتوية وحتى الدينية منها.
ومن ضمن هذه المبادرات، فقد أطلقت وزارة السياحة الشهر الحالي الرزمة السياحية الشتوية تحت شعار “بجنونك بحبك”، وذلك دعماً للسياحة الشتوية. وقد أبدى وزير السياحة وليد نصار إصراراً على إنجاح موسم السياحة الشتوية لا سيما وأن الأخيرة لا تقتصر فقط على التزلج وإنما على السياحة الريفية والدينية وغيرها.
في هذا الإطار، شدّد الأشقر على أن “الرزمة مفيدة بمشهدها العام لكننا نعلم جميعاً أن النتائج ستكون محدودة. فالخطة تنتهي في العاشر من الشهر المقبل مع أن شمولها لفترة الأعياد كان ليأتي بفائدة أكبر على القطاع الفندقي. باختصار فإنّ وقع الإعلان عن الرزمة سيكون أكبر من وقع نتائجها المتوقعة”.
من جهته، يرى الباحث في الدولية للمعلومات، السيد محمد شمس الدين، أن العقدة الأساسية اليوم أمام إعادة إحياء القطاع الفندقي تكمن في أزمة المحروقات. إذ، ومهما كثرت العروض والإغراءات، فالقدرة الشرائية لدى المواطن اللبناني تآكلت بنسبة 93% ما سيحدّ بطبيعة الحال من قدرته على التنقل والسفر. لذا العوائق في وجه السياحة الشتوية اليوم تتمثل بسعر البنزين المرتفع وقدرة الفنادق على تحمّل أعباء ومصاريف الكهرباء ووقود المولّدات، إلى ما هنالك من حاجة لتأمين مستلزمات مستوردة من الخارج. من هنا، يرى شمس الدين أن الرزمة التي أطلقت ستصبّ في مصلحة رعايا بعض الدول العربية مستبعداً أن يستفيد منها المقيم اللبناني.
ما الحلَ إذاً؟ يرى الأشقر أن الأخطاء المتكررة وقلّة الخبرة في معالجة الأزمات كما غياب التعاون مع النقابة للاطلاع على تاريخ القطاع ومعاناته ومحاولة إنقاذه، كلها أسباب تصعّب تحقيق إنجازات على صعيد إدارة الأزمة. ويبقى “المفتاح” هو المصالحة مع دول الخليج لبلوغ الأهداف المرجوة. فلبنان، والكلام هنا للحايك، كان ولا يزال بلداً سياحياً بامتياز يشتهر بحسن الضيافة والكرم، ورغم الظروف القاهرة التي تمر عليه، يبقى القطاع الفندقي من أبرز مقومات استقطاب العملة الصعبة ناهيك عن تأمين فرص عمل لأكثر من 150 ألف عامل، شرط توفر الاستقرار السياسي والخدمات الأساسية.
ثمة توجس، لا شك، من ازدياد خسائر القطاع الفندقي على الرغم من بعض المبادرات “مشكورة” من هنا وهناك. فالمراوحة الرسمية لناحية اجتراح الحلول في الداخل ومع الخارج القريب منه والبعيد قاتلة. وحيث أن أكثر من 8000 مؤسسة سياحية وفندقية ومطعم أقفلت أبوابها حتى اليوم في ترجمة مباشرة للأزمات المتراكمة، وعلى الرغم من أن الخطط والرزمات السياحية لا تعدو كونها في كثير من الأحيان بالونات إعلامية، ألا يستحقّ البلد، بحسب شمس الدين، فرصة أخيرة قبل أن نصدر حكمنا عليه بالإعدام؟ ثم ليس قليلاً الدلالة أيضاً أن قطاع الفنادق حقق عام 2010 أرباحاً بقيمة 9.3 مليارات دولار في حين تتم مفاوضة الجهات الدولية اليوم لاستقراض ملياري دولار. البلد طبعاً يستحق. ولكن…