مجلسُ نوابٍ هو، أو مجلس عزاء؟ أو جماعة من الندّابين يتبادلون المراحم في المآتم… يقتلون المشاريع والقوانين ويسيرون في جنازتها.
مئة وستة وعشرون نائباً – طيّب الله ذِكْر من خَجِلَ فرحَلَ ومن اهتدى فاستقال – ما زالوا منذ ثمانٍ من السنين يلعنون قانون «الستين» ويتصبَّب من جباههم العرق بحثاً وتنقيباً عن قانون انتخاب يراعي صحة التمثيل، وبأعلى درجة من براعة التمثيل «الهوليودي»، وتلبُّس شخصيات النجوم في أفلام رعاة البقر.
ويتكرر المشهد المسرحي والتهريج الدستوري مع كل استحقاق انتخابي، وتتكرر الوجوه بتمديد أدوار الممثلين على خشبة آلام الشعب، والشعب يصفّق موجوعاً والدمع في أجفانه.
وعلى مدى ما يقارب الستين عاماً، ومنذ أن كانت الولادة القيصرية لقانون «الستين»، رحلتْ أجيالٌ وولدتْ أجيال وظلَّتْ الطبقة السياسية ذاتها تتوارث المقاعد النيابية بالحرام الدستوري أباً عن جدّ الى حفيد، وحين ينقطع نسل البنين يكون الأَصهارُ، والصهر سندٌ للظهر.
صدَقَ كمال جنبلاط في كتاب «الإنسان والحضارة» عندما قال…»كل أربع سنوات تأتي طبقة نيابية أقلّ كفاءة ومستوى مما قبلها ولا بدّ من إنشاء مجلس خدمة مدنية للمجلس النيابي يجري إمتحاناً فعلياً للنواب، وعلى النائب أن يتقاعد في سن الستين لإفساح المجال أمام الشباب والتغيير…»
ولم يكن يدرك كمال جنبلاط أن النواب عندنا متفوّقون بالفلسفة والفقْهِ على غرار مَنْ تخرجوا من الأكاديمية التي أنشأها أفلاطون لإعداد رجال دولة يتحلّون بالمعرفة والمسؤولية والفضيلة ويختلفون عن السياسيين الغوغائيين الذين أثاروا في نفسه الإشمئزاز.
عندما تنهار المسؤولية الدستورية والقيم الأخلاقية في سلطة التشريع لا بدّ من الرجوع الى مصدر السلطات الذي هو الشعب، هكذا يقول «الكتاب» للنواب، فيما النواب يُمْعنون تلاعباً بالكتاب، فكان التمديد والفراغ والفساد، رواتب تُنفق بلا استحقاق، وروائح تعبق من الصفقات بلا حسيب ولا حساب.
نفاياتٌ تراكمت في المطامر فاستقطبتْ كل أسراب النَوْرس الجوّي… ونفايات تراكمت في المسؤولية فاستقطبت كل أسراب النورس البرّي والطيور العابرة للحدود.
والوطن… ضائع تائهٌ بين نصفه النازح منه، وحجم نصفه النازح إليه، والشعب يترنح في غياهب الجوع والبطالة والهجرة.
في العالم الديمقراطي المتطور، وفي بريطانيا تحديداً عندما يقوم النائب بعمل يشوِّهُ سمعته ورسالته يُعاقَب بالطرد ويطأطئ النواب رؤوسهم خجلاً عندما يخرج من المجلس.
وفي العالم الديمقراطي المتخّلف، عندما تُشوَّهُ سمعة النائب ورسالته، يُعاقَب الشعب فهو الضحية المحنّطة وعجْلُ النائب الذهبي.
والنائب في المفهوم الديمقراطي، وحسبما جاء في إعلان حقوق الإنسان الفرنسي، يمثل إرادة الشعب ويمثل القانون الذي هو أيضاً تعبيرٌ عن إرادة الأمة.
ولكن، عندما تنتهك إرادة الشعب وتتعرض الأسس الدستورية والديمقراطية للإغتصاب كمثل ما كان على عهد الرئيس قبل الأخير في الجمهورية الفرنسية الرابعة «فينسنت أوريول» لا بد من الإستشهاد بقوله: «لا حكومة، لا دولة في فرنسا، ومجلس النواب هو بيت للمجانين…»