IMLebanon

صخب التأليف ومعاييره..وحقيقة «الديموقراطية البرلمانية»

 

خرجت الانتخابات النيابية الأخيرة بمؤشرات أكثر مما خرجت بنتائج. المؤشرات التي خرجت بها نسبية، متحرّكة، يصعب صوغها جميعها في لوحة متجانسة. هذه الصعوبة تفرض نفسها مباشرة على عملية التأليف الحكومية.

 

فمنذ مدّة غير قليلة، وإن لم يكن منذ كل وقت، ما عادت القوى الممثّلة برلمانياً ترضى بأن تُخرج أياً منها من لعبة الحكم، علماً أنّ أكثر هذه القوى لا يصنّف نفسه في الوقت عينه موالياً أو حاكماً، بل يسري التظلّم من أن سواه القابض على ناصية الحكم، وليس هو. لم تكن هذه هي الحال في سنوات سابقة. بين 1992 و1998 مثلاً، الفترة التي رأس فيها الرئيس الشهيد رفيق الحريري الحكومة، كان هناك رغم وجود «معارضة من داخل الحكومة»، معارضة برلمانية خارجها، ومعارضة خارج البرلمان. وبدءاً من خريف 1998، كان الرئيس الحريري في قيادة المعارضة البرلمانية، إلى أن فرضت انتخابات 2000 مجدّداً تبوُّأَه لرئاسة الحكومة، في ظل تجربة صعبة للغاية مع رئاسة إميل لحّود، وصولاً إلى محنة التمديد القسري للأخير، وقد عاد بعدها الرئيس الحريري للمعارضة، ولعب دوراً محورياً في الوصل بين المعارضات على أرضية سيادية تعددية، إستعداداً لانتخابات 2005 النيابية، واستبَقت آلة الإجرام هذا التراكم السياسي بإغتيال الرئيس الشهيد.

 

رغم كيد الوصاية وكوارثها، كان ثمّة خيط فاصل بين من في الحكم ومن في المعارضة. كان ثمة وزراء مشاكسون في الحكومة، وكان ثمة معارضون أقرب لتيارات حكومية من وزراء من ألوان أخرى، لكن كان ثمة خط بياني لموالاة ومعارضة.

 

المفارقة أنّه بعد رحيل الجيش السوري عن لبنان أخذت ثنائية موالاة ومعارضة تندثر أيضاً في لبنان، أو تأخذ أبعاداً «قسرية» حيناً، و«عجائبية» حيناً آخر، إلى أن ذهبنا أكثر فأكثر، نحو فرض منطق «الحكومة هي برلمان مصغر». وهذا خلاف الديموقراطية البرلمانية.

 

في الأخيرة، تفرز الانتخابات أكثرية تحكم وأقلية تعارض وتعمل على تحوله في الإستحقاق المقبل إلى أكثرية. أما في الديموقراطية البرلمانية على طريقة السنوات الأخيرة، وعلى ما يبدو أكثر فأكثر مع القانون الإنتخابي الأخير، فإن كل فئة تحسب مثقال أكثريتها ضمن طائفتها، وعلى أساسه تنهض للمطالبة بـ «حقوق وزارية» تخالها ثابتة أو راكزة أو لا تحتاج الى برهان أو وسيط لإقرارها، وليس هذا بأسلوب مريح لإنشاء الحكومات.

 

القاعدة الأولى لتشكيل حكومة هي أنه لا يمكنك أن تكون في الحكم ومعارضاً في نفس الوقت، وأن المعارضة البرلمانية، غير الممثلة في الحكم، هي من ضرورات الفاعلية في العملين التنفيذي والتشريعي على حد سواء، وغيابها هو بحد ذاته مشكلة خطيرة، مشكلة تلفت الى تصدّع عميق في العقد الإجتماعي، ذلك أن المعارضة البرلمانية هي بامتياز شبكة أمان أي نظام سياسي يمكن وصفه بالدستوري – التعددي.

 

لبنان بحسب المنصوص عنه في مقدمة دستوره جمهورية ديموقراطية برلمانية، ونظامه قائم على مبدأ فصل السلطات وتوازنها وتعاونها. لا ذكر في غير المقدمة لهذا الإطار المحدّد، النظام الديموقراطي البرلماني، بل لا ذكر لمفردة ديموقراطية في كل الدستور خارج الفقرة «جيم» من مقدمته. ربما كانت هذه الندرة في النص، لجهة اقتضابه في تسويغ مقام النظام الديموقراطي البرلماني، تساعد على تشويه الفكرة عنه في التجربة السياسية. لكن الطامة الكبرى هي في تحجج فرقاء بـ «مواد» غير موجودة لا في نص الدستور ولا في أي معنى من معاني العرُف أو شبهة. ليس هناك مقاعد وزارية محجوزة سلفاً لطائفة أو ممنوعة أبداً عن طائفة أخرى. الوزارات السيادية غير محصورة دستورياً بالطوائف الأكبر عدداً. ليس هناك ضمانات «تعطيلية» مسوغة دستورياً. هناك مقدار من التعددية السياسية لا بد أن يلحظ في أي حكومة بلبنان، كي لا تكون التعددية الطائفية المنصوص عن كيفية توزيع نسبها دستورياً، فاقدة للمصداقية التمثيلية. لكن ليس هناك «ترجمة فورية» للأحجام البرلمانية يمكن أن تعني أنه يحق لهذا الفريق هذه الوزارة أو تلك. طبعاً يمكن أن يقول كل فريق ما يحلو له قوله إبان عملية التأليف، لرفع حظوظه، إنما المشكلة أن هذا الشكل من التفاوض السياسي «الصاخب» بات يفتقد أكثر فأكثر الى «الحد الأدنى المعياري» للتوازن المطلوب، وكذلك إلى الحد الأدنى من التجانس الحكومي. حتى الساعة، لا يمكن الفصل بشكل واضح إذا كان هذا التفاوض السياسي الصاخب له سقفه الزمني والعملي، أو لا. لكن، حتى الساعة أيضاً يمكن القول أنّ كل ابتعاد عن أسلوب تشكيل الحكومة السابقة سيصعّب الأمور أكثر. صحيح أنّه لا يمكن استعادة كل طريقة تأليف الحكومة السابقة، وإغفال المؤشرات والأحجام الإنتخابية، لكن اعتماد خارطة تشكيل الحكومة السابقة كمسودة تجرى عليها تعديلات، ما زال، في ضوء المعطيات الحالية، السبيل الأقل احتداماً لإنجاح التأليف.