ليست فكرة تقسيم سوريا بجديدة٬ ولا هي مقترنة بما شهدته البلاد من تطورات كارثية في السنوات الخمس الماضية٬ بل هي أقدم من ذلك٬ إذ بدأت قبل تشكيل الكيان السوري بصورته الحالية٬ وكانت فرنسا دولة الانتداب على سوريا٬ عملت في عشرينات القرن الماضي على تقسيم سوريا إلى خمس دول٬ لكنها فشلت٬ وتم طي المشروع عملًيا٬ وسط أسباب عدة أهمها إصرار السوريين على وطن واحد يجمعهم.
لكن إفشال السوريين لمشروع تقسيم سوريا٬ لم يمنع أصحاب الفكرة٬ والطامحين لتحقيقها من إعادة طرحها مرات في العقود الأخيرة٬ ولعل الأهم في تلك الأطروحات٬ أطروحة إسرائيلية لتقسيم سوريا٬ أطلقها الإسرائيلي عوديد عينون مطلع الثمانينات في إطار فكرة أعم لتقسيم المشرق العربي٬ مستغلاً الضعف الذي ضرب المنطقة٬ ولا سيما في لبنان وفلسطين٬ والحرب التي شنها نظام حافظ الأسد على الشعب السوري أواخر السبعينات ومذابحه في حماة وحلب وتدمر وعشرات آلاف القتلى ومثلهم من السجناء٬ وأكثر من مائتين وخمسين ألًفا٬ هاجروا أو تم تهجيرهم نتيجة سياسة الأسد الدموية. ثم أعيد طرح فكرة تقسيم سوريا مؤخًرا من أطراف متعددة٬ كانت آخرها أطروحة أميركية٬ شارك في الكلام عنها رسميون ورجال استخبارات سابقون٬ أكدوا أن التقسيم واحد من الحلول الممكنة للقضية السورية٬ وما شهدته سوريا من صراعات وتطورات في السنوات الخمس الماضية.
ورغم أن سنوات الصراع٬ والسياسات الطائفية٬ التي رفع نظام الأسد رايتها ومارسها عملًيا٬ تركت جروًحا عميقة في الحياة السورية٬ وقادت إلى ظهور تجاذباب وانقسامات دينية وطائفية وعرقية في أوساط بعض السوريين وفي بعض بلدان المنطقة٬ وولدت قوى منظمة ذات طبيعة دينية وطائفية وعرقية لدفع سوريا وبلدان في المنطقة نحو انفجار٬ يعتبر الصراع السني الشيعي أهم أدواته٬ فإن فكرة تقسيم سوريا وبعض بلدان المنطقة بشكل عام٬ ما زالت بعيدة عن الواقع٬ وأساس هذا البعد يكمن في عوامل٬ الأهم فيها عامل إقليمي دولي٬ يجعل من الصعب إعادة رسم خرائط جديدة في المنطقة٬ على أساس ديني أو طائفي أو عرقي نتيجة التداخلات الديموغرافية٬ والاختلاطات القائمة في مستوى الإقليم٬ وداخل العدد الأكبر من دوله٬ والذهاب إلى تقسيم أي واحدة من تلك الدول٬ سيفتح الباب أمام تقسيم الدول الأخرى٬ الأمر الذي يعني صراعات وحروًبا٬ وما يليها من مهجرين ولاجئين٬ يحتاجون جهوًدا وأموالاً ووقًتا٬ لن يستطيع العالم كله٬ أن يحتملها أو يتحملها.
العامل الآخر الذي يجعل تقسيم سوريا وبلدان في المنطقة بعيدة الاحتمال٬ أساسه عدم وجود حامل سياسي واجتماعي محلي أو إقليمي لفكرة التقسيم٬ وهذا مثبت في مواقف الأنظمة السياسية٬ كما في أفكار الجماعات السياسية الرئيسية ومواقفها٬ والأمثلة في هذا كثيرة٬ إذ تعارض أنظمة المنطقة النزعات الانفصالية والتقسيمية بصورة أساسية٬ وهو ما تؤكده غالبية الجماعات السياسية في اتجاهاتها الرئيسية٬ ولعل المثال الأوضح في الأخيرة٬ معارضة تشكيلات المعارضة السورية للتقسيم٬ رغم كل ما أحاطت بالوضع السوري من تطورات وأحداث وتجاذبات في السنوات الماضية. غير أن ذلك كله لا يمنع من قول٬ إن بعض الأنظمة في المنطقة٬ لا تمانع٬ إنما تشجع التقسيم ومنها إيران في دعمها نزعات انفصالية في بعض البلدان٬ ونظام الأسد في سوريا الذي مارس تصعيد النزعات الطائفية ودعمها في بلدان أخرى٬ والأمر نفسه موجود في أفكار ومواقف بعض الأحزاب والجماعات السياسية الصغيرة٬ وذات التأثير المحدود في بعض بلدان المنطقة.
ومثلما يغيب الحامل السياسي القوي لفكرة تقسيم الدول في المنطقة وفي سوريا٬ فإن الحامل الاجتماعي القوي مفقود هو الآخر. فما زالت الأكثريات في بلدان المنطقة٬ أقرب إلى التعايش والاستمرار في كياناتها الوطنية٬ حتى الحديثة منها مثل الأردن ولبنان٬ والتي عاشت تجارب مرة نتيجة صراعات وانقسامات٬ كادت تشتتها وتقسمها في مراحل سابقة٬ وقد جعلت الفكرة من الماضي بعد أن أثبت الواقع٬ أن فاتورة الانقسام٬ أكثر تكلفة من فاتورة الاستمرار في الكيان الواحد٬ ولعل تجربة الكيان الكردي في شمال العراق مثال على عدم نجاعة مشروع الانفصال عن العراق٬ وعزوف شيعة العراق وسنته عن التوافق على تقسيم العراق٬ هو مثال آخر على غياب الحامل الاجتماعي لفكرة التقسيم في دول المنطقة.
وإذا كان من الصحيح٬ أن فكرة التقسيم صعبة وضعيفة وبعيدة٬ فإن من الصحيح أيًضا أن فكرة بقاء الدول القائمة على نحو ما هي عليه في طبيعتها الاستبدادية
الديكتاتورية٬ صارت أطروحة غير قابلة للبقاء والاستمرار٬ مما بات يتطلب دولاً جديدة في المنطقة٬ تقوم على مفاهيم الدولة الحديثة٬ وخصوًصا مفاهيم الحرية والكرامة والعدالة وحقوق الإنسان٬ وهذه كلها لا توفرها الدول القائمة على النزعات الدينية والطائفية والعرقية٬ بل توفرها دولة المواطنة٬ التي هي بديل للدولة الحالية٬ أكثر مما هي الدول الناتجة عن عمليات تقسيم الدول القائمة.