Site icon IMLebanon

الفكرة التي تقتل الأطفال

«أي أبي هول هذا من الإسمنت

شظى جماجمهم وافترس أدمغتهم

إنه مولوخ، العزلة، البشاعة، القذارة وبراميل نفايات

أطفال خائفون يزعقون تحت السلالم

صبية ينشجون في الحروب

وشيوخ ينتحبون في الساحات»

(قصيدة عواء للشاعر الأميركي ألن غنسبرغ)

ألن غنسبرغ شاعر أميركي ثائر فوضوي يعتبر من ملهمي الحركة الهيبية التي راجت في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي. في قصيدة عواء يصور غنسبرغ منظومة استدراج الشباب لخوض الحروب وتشجيعهم على الفداء بأرواحهم من أجل فكرة ما، بإله كنعاني سيّئ الطبع إسمه «مولوخ» وكان مولعاً بالقرابين البشرية وخاصة من الأطفال، وذلك بحرقهم على المذبح لينزل بركاته على المؤمنين به.

منذ سنوات أخبرتني إحدى الناشطات الإجتماعيات عن قصة طفل يتيم استشهد والده في مواجهة مع إسرائيل، وهو عضو في «حزب الله»، وتوفيت والدته بمرض. كان الطفل تحت رعاية «مؤسسة الشهيد» ويدرس في إحدى المدارس التابعة للحزب في البقاع.

في إحدى المناسبات سألت المعلمة التلاميذ في صف الطفل اليتيم عما يتمنونه لأنفسهم في الحياة، فتوزعت الآمال بين الأطفال من طيار إلى مجاهد إلى طبيب إلى قائد في الحزب إلى مهندس… أما أمنية الطفل اليتيم فقد كانت محصورة بأن يصبح شهيداً، وعندما سألته المعلمة عن الهدف قال أنه يشتاق لوالده الشهيد وأمه التي تسكن روحها الجنة، وأن السبيل للقائهما هو بأن يستشهد هو أيضاً ليلتقي بهما!

بالطبع فقد دمعت أعين المعلمات تأثراً من كلام الطفل، ودعيت المديرة للإستماع إلى ما قاله، فكان هذا الحدث محطة احتفالية لنجاح فكر المقاومة، وبالأخص «مؤسسة الشهيد»، في قدرته على تشجيع الجيل الناشئ للتضحية في سبيل الفكرة العظيمة التي تقول أن مفتاح النعيم هو عن طريق وسيلة محددة للموت، قررتها ورسمت معالمها قيادة معصومة تلهمها القدرة الإلهية.

لم ينتبه المحتفلون في فورة بهجتهم وحبورهم للحزن المرسوم على وجه الشهيد الحي، ابن الشهيد.

تذكرت هذه القصة منذ بضعة أشهر، عندما شاهدت شريطاً مصوراً ومنتشراً على وسائل التواصل الإجتماعي، لأحد أمراء «داعش» وهو يغمر ابنتيه الصغيرتين، ومظاهر الحب والأبوة الصادقة بادية على وجهه وتصرفاته، وهو يحضرهما لتحملا حزامين ناسفين تحت الجلباب الأسود، وأظن أن الطفلتين قضتا بعد ذلك بقليل في عملية انتحارية.

ولست متأكداً اليوم إن الوعد بالجنة هو ما دفعهما «للإستشهاد»، لكن المؤكد هو أن سلطة الاب والسعي إلى رضاه والرغبة في طاعته هي التي لعبت الدور الأكبر في إقناع الفتاتين بالموت تفجيراً، ولا أظن أنهما كانتا ترغبان بالحصول على عدد من الحوريات!

مباشرة بعد ذلك، راجعت طقوس تقديم النذور القديمة التي كان البشر يقومون بها في سبيل فكرة خطرت على بال بشري آخر افترض فيها أن تقديم أغلى ما يملكه في سبيل فكرة افتراضية هي أيضاً، ستمكّنه من اكتساب خير أكبر من التبرع بفلذة كبده مثلاً في سبيل رضى الفكرة، التي أصبحت في لحظة من الزمن، موضع إجماع القرية أو القبيلة أو المدينة أو المملكة أو الإمبراطورية أو الأمة بأجمعها، وما لم أقتنع به هو أنه إذا كان الأب أو الأم مقتنعَيْن بالفكرة التي تبتلع الأطفال، فلما لم يتقدم أحدهما للتضحية بدل الأبناء؟

كل تلك الأفكار أتت إليّ منذ بضعة أيام يوم سمعت أن أهل القاصر الذي «استشهد» في سوريا تحت راية فكرة «حزب الله»، أصدر أهله بياناً يبرّئون فيه الحزب من دم طفلهم «الشهيد».

(*) عضو المكتب الساسي في تيار «المسقبل»