IMLebanon

أوهام الحاضر ومخاطر الربيع المقبل

لم يحجُب ارتفاع الحماوة على الساحة الإقليمية، الإشارات الإيجابية حول التسوية التي تلوح من خلف الدخان المتصاعد. وهو ما يعني أنّ الحلول الجاري تركيز أسُسها سيكون الإعلان عنها مؤجَّلاً إلى الإدارة الأميركية المقبلة إذا لم تحصل تطوّرات خارجة عن الحسبان.

في انتظار ذلك، الترتيبات الميدانية قائمة تمهيداً للتسوية المنتظرة تماماً كما يحصل في منبج وحلب. فاستكمال تطويق الجزء الشرقي من المدينة جاء عقب تفاهمات عريضة بين النظام وموسكو، وبين موسكو وواشنطن، وكان من أبرز دلالاتها إدراج «جبهة النصرة» على قائمة الاستهداف العسكري.

ورغم أنّ الاضطرابات الداخلية الحاصلة في تركيا ساهمت في إنجاح خطة تطويق حلب، لكنّ الخط الأحمر الجديد المرسوم يمنع اقتحام الأحياء الشرقية لحلب، ما يُكرّس المعادلة الميدانية الجديدة: إمساك النظام وحلفاؤه بزمام المبادرة العسكرية والأرجحيّة الميدانية ولكن مع الإبقاء على حضورٍ ونفوذٍ تركيّ بالحدّ الأدنى الممكن داخل حلب.

لذلك مثلاً، تركّزت المواقف الأميركية والغربية على ضمان الوضع داخل أحياء حلب الشرقية مع تساؤلات عن معنى فتح معابر للخروج وما إذا كان ذلك بهدف تفريغ الجزء الشرقي تمهيداً لاقتحامه، وكان الجواب السوري واضحاً.

دلالات تطوّرات حلب كبيرة وستليها خطواتٌ أخرى في مناطق أخرى، خصوصاً جنوب دمشق لتحضير الخريطة الميدانية، تكون متناسبة مع التفاهمات العريضة التي حيكت في موسكو.

وما من شك في أنّ خطوة زعيم «جبهة النصرة» بفك ارتباطه بـ»القاعدة» واتخاذ اسم جديد لتنظيمه إنما تشكل مؤشراً إضافياً عن حصول تفاهمات كبيرة في الكواليس تستوجب هذه التعديلات.

لكنّ الأفق الأهم لتفاهمات الكواليس يطاول الصراع العربي – الإسرائيلي، وهناك مَن يعتقد أنّ التواصل المباشر والعلني الإسرائيلي – السعودي ما كان ليحصل لولا وجود مناخات مشجّعة في غرف القرار.

وكان لافتاً الكشف في إسرائيل، وللمرة الأولى، عن مقابلة صحافية أُجريت مع مؤسّس الدولة الاسرائيلية دافيد بن غوريون بعد عام من حرب 1967 ولم تنشر في حينه وتتضمّن المقابلة إصراراً لبن غريون على وجوب إعادة الأراضي التي احتلّتها إسرائيل إلى العرب، ومعارضته إنشاءَ المستوطنات في الضفة الغربية في مقابل الحصول على سلام دائم وثابت ونهائي مع العرب.

هذه المقابلة التي تراجع بن غوريون عن نشرها في اللحظات الأخيرة، لم يكن الافصاح عنها الآن من باب الصدفة أو المعرفة التاريخية. لا شك في أنها تُمهّد لتحضير المجتمع الاسرائيلي، بعدما أثبتت الانتخابات أنه لا يزال يرفض التسويات السلمية لولوج باب التنازلات لاحقاً.

وعلى الرغم من العلاقة السيّئة بين واشنطن وحكومة بنيامين نتنياهو، من المفترض أن يتوجّه غداً وفدٌ عسكري إسرائيلي رفيع الى العاصمة الأميركية للتفاهم على برنامج زيادة الدعم العسكري لإسرائيل، وجاء ذلك نتيجة للجولة التي قام بها وفد اليهود الاميركيين الى المنطقة، حيث بات معروفاً أنّ هذا الوفد متحمّس لدخول إسرائيل في تسوية سلمية نهائية مع جيرانها العرب.

واللافت أيضاً أنّ نتنياهو يحرص ومنذ التدخل العسكري الروسي في سوريا على عدم الإدلاء بما من شأنه تعكير صفو العلاقات بين البلدين. في وقت تؤكد فيه مصادر ديبلوماسية غربية أنّ موسكو وتل أبيب تتبادلان المعلومات الاستخبارية، وأنّ القيادة العسكرية الاسرائيلية تبلّغ القيادة الروسية دائماً بالعمليات والتحرّكات التي تنوي القيام بها في مناطق عمل ونفوذ القوات الروسية.

كلّ ذلك يعني الكثير بلا شك، ويؤشّر الى وجود تفاهمات أوَّلية عريضة على مستقبل المنطقة يجرى ترتيبها انطلاقاً من الجحيم السوري.

وتبدو الأوساط الديبلوماسية مقتنعة بأنّ عامل التعب الذي أصاب مختلف اطراف الصراع الدائر في سوريا يشكل دافعاً قوياً للشروع في إنجاز ترتيبات سورية تليها فوراً ترتيبات تتعلق بالمنطقة والتسوية العربية – الإسرائيلية.

أضف الى ذلك، الخوف الذي يجتاح العواصم الأوروبية وكذلك الشارع الأميركي. كلّ ذلك يشدّ الجميع للاندفاع خطواتٍ الى الأمام بغية نقل المنطقة الى مرحلة أخرى، على أن يتزامن ذلك مع وصول إدارة أميركية جديدة قادرة على رعاية وإنجاز التفاهمات. وهو ما يعني ضمناً استمرار، وربما ارتفاع، حماوة المعارك والمواجهات حتى بداية فصل الربيع المقبل.

لبنان بدوره لن يشذّ عن هذا المسار العام، ما يعني وجوب عدم الغرق في الأوهام وحبائل تجّارها.

وتتوقع الأوساط الديبلوماسية اهتزازاتٍ داخلية سياسية وأمنية ستشمل المرحلة الفاصلة عن الربيع المقبل، موعد إدخال لبنان في التسوية الكبرى، حيث ستسود صفقاتُ الشراء والبيع، وسيشكل لبنان جانباً اساسياً في هذا المجال.

أضف الى ذلك أنّ الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية شكلت هاجساً كبيراً لإسرائيل خصوصاً مع فشل الحرب الإسرائيلية منذ عشر سنوات، ما يعني أنّ «حزب الله» سيشكل بنداً أساسياً في النقاشات المنتظرة. لذلك لا يستبعد المراقبون تجدّد الضغوط المالية الأميركية على «حزب الله»، ولا سيما أنّ السفيرة الأميركية الجديدة في لبنان إليزابيث ريتشارد تحمل برنامجاً واضحاً حيال مهمّتها في بيروت وتتعلق بتجفيف مصادر تمويل «حزب الله».

بالتأكيد تريد واشنطن لاحقاً استثمارَ هذه الضغوط في إطار المشروع الكبير المطروح في المنطقة، ومن خلاله التسوية العربية – الإسرائيلية، وهي ستكون مستعدّة لتأمين أثمانٍ سياسية لقاء ذلك لـ«حزب الله» في لبنان والمنطقة. ما يعني أنّ النظامَ السياسي اللبناني قد يوضع على طاولة البحث مجدّداً.

من هذه الزاوية ووفق كلّ ما تقدّم، يمكن تفسير تصاعد الصراع في المنطقة وارتفاع لهجة التحدّي بين «حزب الله» والسعودية، ومن هذا المنطلق تُفهم صعوبة إنجاز الاستحقاق الرئاسي الآن طالما أنّ ملفّ النظام السياسي برمّته سيوضع على طاولة المفاوضات بعد بضعة أشهر.

وبعد زيارة الرئيس سعد الحريري الى الرئيس نبيه برّي أمس، سيتعمّد الحريري إبقاءَ مواقفه ضبابية وغير حاسمة، وسيسافر قريباً الى الخارج ولن يحضر جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في الثامن من آب، وهو الموعد الذي يثير لغطاً كبيراً، أي أنّ النصاب لن يكتمل.

لا حاجة لمزيد من الأوهام. فلننتظر الربيع المقبل ولكن الأهم لنحسب ونحتط جيداً.