منذ التسوية التي جاءت بالحكم الحالي في لبنان، رئيسَ جمهورية ورئيسَ حكومة، لا تزال أصوات أهل الحكم تردد أن هذا العهد يختلــــف عن عهود سابقة. فهو «العهد القوي» الذي انتظــره اللبنانيون طويلاً، وأنه المنقذ للبلاد على مختلف المستويات، استقلالاً وتحسناً للأوضاع الاجتماعية وحمــاية للحريات الديموقراطية. بعد عام على هذه الوعود يتكشف العهد عن مجموعة من التنـــاقضات والتجاوزات، بما جعلت النظام يعيش بعد عام على الحكم الجديد في وضع متهالك يجد تعبيره في ميادين مختلفة.
لا يخفى على أي مراقب حجم الأزمات التي تعصف بالبلد، فالكلام المتصاعد عن الاستقلالية وإقامة العلاقات مع الدول العربية والإقليمية على قاعدة هذه الاستقلالية والمصلحة اللبنانية، يتكشف عن مسلك مغاير للحكم، قوامه المزيد من الالتحاق بالمحور الإيراني، الفاعل بقوة في البلد، وتجاوز ما سبق أن قرره العهد من سياسة النـــأي بالنفس عن الصراعات العربية – العربية أو الصراعات العربية– الإقليمية. يبدو البلد اليوم في أعلى درجات افتقاد الاستقلالية، وهو ما يجعل الحكم متجاوزاً قواعد الميثاق الوطني، مهدداً البلد بنتائج وخيمة على مصالحه الوطنية.
ويتكشف «العهد القوي» عن طبقة سياسية تسجل كل يوم أشكالاً عجيبة من الانحطاط السياسي، والفساد، وإدارة الظهر لهموم الناس. فالتجاوزات على المكشوف، من الكهرباء إلى النفط إلى الاتصالات، ناهيك عن التهريب والسيطرة غير الشرعية على المرافئ والمطار… وغيرها. يبدو التضامن في أعلى درجاته عندما يتعلق الأمر بنهب مالية البلد والتطلع إلى السيطرة على ثرواته النفطية الموعودة.
وتتهاوى ادعاءات «العهد القوي» عند رؤية السياسة الاقتصادية والاجتماعية للحكم، وهي سياسة تمعن في إفقار الشعب اللبناني، بحيث بات أكثر من نصف سكانه يعيـــشون تحــــت خط الفقر. ترتفع البطالة إلـــى مستويات قياسية، وتتقلص فرص العمل لخـــريجي الجامعات نظراً إلى غياب مشاريع التنمية، وترتفع الأسعار من دون أي مراقبة تضع حداً لجشع التجار. وإذا كان البلد يخضــع لسياسة اقتصادية منذ فترة عنوانها هيمنة رأسمالية متوحشة، فإن هذه الهيمنة تزداد تسلطاً ووقاحة في فرض توجهاتها.
لم يكف «العهد القوي» عن الادعاءات بالانتصار على الإرهاب، مكرراً ما فعله في معركة جرود عرسال، في وقت انجلت تلك المعركة عن مسرحية واضحة، وصفقة مع تنظيم داعش، شكلت فضيحة لمن قدم هذه المعركة وكأنها أهم من معارك نابليون. لم يخجل أركان الحكم من التزمير لهذه المعركة في المحافل الدولية، فيما لم يعد خافياً ما جرى في تلك المعركة الموهومة.
لم يكن مجهولاً ما كان «العهد القوي» يضمره منذ الأشهر الأولى لقيامه، بالتوجه نحو تكريس ديكتاتورية عسكرية، وانفراد بالحكم، وسعي إلى استعادة صلاحيات وامتيازات سبق لحروب أهلية أن قلّصتها، ودفع الشعب اللبناني غالياً من أجل الوصول إلى تسويات تبدو اليوم مترنحة وتهدد بانفجارات على مستويات مختلفة. راودت العهد كثيراً نزعة استنساخ النظام العربي، وتقليد الديكتاتوريات القائمة، في مرحلة تتهاوى فيها هذه الديكتاتوريات تحت قبضات انتفاضات الشعوب العربية وتوجهاتها لإسقاط هذه الأنظمة. إذا كان الحكام العرب غلّفوا سابقاً حكمهم الاستبدادي بإصلاحات اجتماعية وأيديولوجية قومجية، فإن العهد اللبناني يسعى إلى ديكتاتورية عارية من أي إنجازات.
إذا كانت تلك سمات «العهد القوي»، فلا يعود غريباً أن يشكل أي انتقاد لسياسته تعدياً على وعوده وادعاءاته. في هذا المجال، تقع معركة الإعلام والهيمنة عليه ومنعه من التعبير الحر ونقد ممارسات الحكم، في رأس سياسات «العهد القوي». هنا يسعى العهد إلى تقاليد عربية كانت ناجحة في تكميم الإعلام والعاملين فيه، عبر القتل أو السجن أو النفي. لكن العهد، قد يجهل أن كل الذين فتحوا معركة الحريات الديموقراطية والإعلامية من حكام سابقين، أوقعوا أنفسهم في مأزق وفشلوا في القمع المنشود. فلبنان، على رغم كل ما أصابه، لا يزال يحتفظ بهذا الهامش من التقليد الديموقراطي. ناهيك بأن ثورة الاتصالات في مجال الإعلام شكلت انقلاباً بات معها من المستحيل أن يجري تجهيل الناس بالحقائق والفضائح. ولعل معركة الإعلام لتكميمه تبقى من أفشل المعارك التي يقودها أي حكم، سواء كان في لبنان أم خارجه.
أمام الحشد الواسع من الأزمات، لا يتوقعنّ أحد أن يدرك العهد أخطار توجهاته، بل المتوقع الإمعان في معركة ضرب الحريات الديموقراطية. ما سيضع البلد أمام أزمات، تحمل كل الأخطار على نظامه وكيانه.