Site icon IMLebanon

هل الخوف من “الصندوق” مُبرَّر ومشروع؟

 

 

أمّا وقد بَدأ وفد صندوق النقد الدولي زيارته الى بيروت، فلم يعد هناك كثير من الوقت لانتظار ما يمكن ان يقترحه من مخارج لتجاوز الأزمة بوجوهها المختلفة. فالمصاعب النقدية والمالية والمآسي التي يعيشها اللبنانيون مطروحة منذ أمس الأول على الطاولات التي جمعت هذا الوفد بالمسؤولين اللبنانيين. وعليه، فهل هناك من مبرر للخوف من مهمته؟ وإن وجد فلماذا؟

ليس مستغرباً أن يتوجّس بعض اللبنانيين من زيارة وفد صندوق النقد الدولي وما يمكن ان تؤدي إليه مهمته في بيروت، فالروايات متعددة حول «قَساوته» في معالجة الأزمات الكبرى. والحقيقة تقال انّ هؤلاء المتوجّسين لم ولن يجدوا أنفسهم ولو للحظة في مواجهة مع من هو مطمئن للنتائج المتوقعة. فحصر البعض لمهمته بالدعم التقني كما يرغب في توصيفها موضع تشكيك لأنّ الخيارات ضيقة جداً.

 

ففي الحالتين، ليس هناك أيّ معلومة تزرع الاطمئنان في نفوس المتوجسين والمتريّثين معاً. فالجميع ينتظر ما يؤدي الى حسم هذا الشعور المتناقض الذي يعيش المواطنون تحت وطأته الثقيلة، لأنّ لحظة الحسم لم تَحن بعد. فمنذ أن اتّخِذ القرار باللجوء الى استشارة الصندوق ليساعد اللبنانيين على رسم خريطة الطريق المؤدية الى الخروج من النفق، لم تقدّم للحكومة أي معلومة تلقي الضوء على ما هو متوقع، في وقت تفعل الشائعات والسيناريوهات المظلمة فعلها الإجرامي.

 

على هذه القاعدة، يُبدي المراقبون قلقهم الجدي لوجود رأيين او اكثر لدى الوصول الى مرحلة النقاش حول أقصر الطرق للخروج من المأزق. فليس كل الذين وافقوا على اللجوء الى استشارة صندوق النقد لديهم وجهة نظر واحدة. ولذلك، فإنّ الانقسام ما زال قائماً معطوفاً على الخشية من تفاقم هذا الخلاف. فمِن بَين مَن قَبِل بطلب الإستشارة من يراهن على إمكان حصر مهمة الوفد بإسداء النُصح ليطلب ويتمنى إنهاءها، في وقت يعتقد آخرون بصعوبة الفصل بين مرحلة الاستشارة والمراحل التنفيذية التي تليها.

 

ولذلك، فإنّ النزاع القائم في الكواليس السياسية والحكومية، وإن لم يظهر الى العلن اليوم فإنّ أوانه ليس ببعيد. فكل التجارب السابقة التي خاضَتها الحكومات المتعاقبة منذ عقدين من الزمن تؤدي الى هذه النظرية. فكلّ مَن عايَن التجارب السابقة للصندوق في أكثر من دولة لا يستبعد ان ينقسم اللبنانيون مرة أخرى حول ما يمكن أن تنصح به. وما يزيد في الطين بلّة انّ الوضع في لبنان بلغَ مرحلة متقدمة من الانهيار، وقد تأخّر المسؤولون في مواجهة المعضلة التي كان عليهم استشرافها قبل ان تصل الى ما وصلت إليه. فالمؤشرات كانت توحي بما حصل لو نظر اليها المسؤولون بعيون مجرّدة بعيداً من المناكفات الداخلية والنزاعات الوهمية التي خيضَت حتى الأمس القريب.

والدليل الى صحة هذه النظرية لا يحتاج الى كثير من العناء للكشف عنه. فكل النصائح التي رافقت مجموعة المؤتمرات التي بدأت بمسلسل مؤتمرات «باريس 1 و2 و3» وصولاً الى «سيدر واحد» تحدثت بكثير من الصراحة عمّا يمكن أن يصل إليه الوضع في ظل التهاون اللبناني بعدم اللجوء الى الإصلاحات الأساسية التي كانت مطلوبة، والتي تسبب تجاهلها أو التمنّع عنها بهشاشة الوضع الإقتصادي والنقدي. فكيف إذا أضيفت كلها الى سلسلة الجرائم السياسية التي ارتكبت في حق لبنان، والتي هَددت علاقاته الدولية ليس مع المؤسسات المانحة وحسب وإنما على مستوى العلاقات مع الدول التي لم تُقصّر في مَد يد العون له.

فكل ما هو متوقّع من نصائح صندوق النقد قالها مسؤولون منه، ومن قبلهم وبعدهم مسؤولو البنك الدولي والمؤسسات الأممية والحكومات الداعمة للبنان والفريق الفرنسي المكلّف متابعة تنفيذ مقررات «سيدر» وسلسلة تقارير المؤسسات المكلفة بالتصنيفات المالية والإدارية. فإن قال الوفد بضرورة اللجوء الى قرارات ادارية ومالية وضريبية قاسية وجريئة وصعبة ليس مفاجأة لأحد ممّن كان في قلب السلطة، وإن قالت التوصيات بالاسراع في تخفيف حجم الأعباء المُلقاة على الحكومة اللبنانية في تعاطيها مع الإدارة والقطاع العام وطريقة ادارة المرافق العامة والمؤسسات الخدماتية الكبرى ومكافحة التهرب الضريبي والتلاعب بموارد الجمارك وإعادة النظر في النظام الضريبي ليكون أكثر عدالة، فإنّ ذلك لن يكون جديداً.

وعليه، لا يمكن أحد مِمّن لم يفارق السلطة في كل المراحل السابقة أن ينفي ذلك. لا بل فهو كان على علم بضرورة مكافحة الفساد وتعزيز هيئات الرقابة على المال العام وبناء السلطة القضائية المستقلة ومكافحة الآثار المترتبة على أزمة الكهرباء في لبنان والتخفيف من سوء البنى التحتية في قطاع الاتصالات والخدمات العامة، ولم يقدموا على أي من الخطوات المطلوبة الى أن وقعت الواقعة وبلغت التطورات ما بلغته من خطورة يمكن ان تنعكس على مختلف وجوه الحياة للبنانيين.

لا بل على العكس، ففي مواجهة قرارات ترشيق الإدارة الرسمية والقطاع العام زاد التوظيف العشوائي بكل الأشكال المقنّعة وصولاً الى مرحلة بلغَ فيها التضخّم في مصاريف الدولة اللبنانية والتزاماتها تجاه موظفيها دون ما هو متوافر لرفد مواردها المالية بما هو مضمون وثابت. فهل نَسي اللبنانيون انهم افتقدوا الموازنة العامة طوال 12 عاماً بقي فيها التصرّف بمواردها المتأتية من «الديون المتراكمة» بـ«فوائدها الخيالية» مع ما رافَقها من «الهندسات المالية» وعمليات «السواب» التي أرهقت المالية العامة وزادت من كلفة الدين العام من دون اللجوء الى اي عملية إصلاحية كانت مطلوبة لتصحيح الميزان التجاري وتقليص العجز تحت رقابة مشددة وبكل شفافية؟

ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل، ينصح كثر من أعضاء «خلية الأزمة» بأنّ ما ستقوله بعثة الصندوق لا يمكن ان يبقى من باب النصح، وهو أمر واضح وتَبلّغه المسؤولون من لقاءات اليوم الأول. فما كشف عنه رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، بعد اجتماعه وزملائه مع وفد الصندوق، كان كافياً عندما نقل عن أعضائها حجم قلقهم على تجربة لبنان في مواجهة هذا الانخفاض الكبير في حجم الاقتصاد والناتج القومي وصولاً الى ما أصاب القطاع المصرفي من عطب لا يمكن معالجته بسهولة، خصوصاً انّ ما هو مطلوب يختصر في مرحلته الاولى بإعادة رسملتها وربما بالدمج بين بعضها لتستعيد الثقة التي بُنيت في سنوات وانهارت في ايام قليلة.

وبناء على ما تقدّم وخلافاً لأيّ رأي آخر، فقد باتَ واضحاً انّ لبنان امام الامتحان الأصعب والأخطر ليُظهر جدارته في إمكان الخروج من المأزق. فما لم يَقله وفد صندوق النقد عَبّر عنه ديبلوماسيون آخرون من العرب والأجانب الذين دعوا الى تعزيز سياسة «النأي بالنفس»، وانسحاب بعض اللبنانيين المتورطين في «لعبة الأمم» المتناحرة في المنطقة، والعودة الى لبنان للتوافق وضَم الجهود من أجل خلاصه. وعند الإقرار بهذا الواقع الصعب لن يعود مهمّاً التوقف عند من يخشى مهمة وفد صندوق النقد إذا ما اقتنع بخطورة تجاوزها، وأن يكون على استعداد لملاقاتها بما تقترحه قياساً على قدرات اللبنانيين أيّاً كان الثمن المطلوب.