هناك قول لبناني شائع بأنّ «القلّة بتولّد النقار»، فكيف الحري إذا كان الوضع يقارب الإفلاس وأحد أبرز أسبابه الفساد.
في تقرير صدر أخيراً عن صندوق النقد الدولي، ظهرت تقديرات تشاؤمية أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستشهد أكبر ركود لها، منذ أربعة عقود، بسبب تداعيات وباء «كورونا».
وتوقّع التقرير أن تبلغ نسبة الإنكماش الاقتصادي في الشرق الأوسط للعام الحالي 33 % ما يعني زيادة البطالة ومضاعفة مخاطر الدين العام.
ولتجنّب الأسوأ، إقترح التقرير أن تعمد الحكومات الى تعزيز شبكة الأمان للرعاية الإجتماعية، وتقديم إعفاءات ضريبية موقتة وإستخدام السياسات النقدية والمالية للحفاظ على السيولة.
اما المشكلة بالنسبة الى لبنان، فأنّه كان يعاني أصلاً من واقع إقتصادي خطير فاقمته إجراءات الإقفال لمواجهة وباء «كورونا»، وزادت من خطورته الأزمة المالية التي يرزح تحتها بسبب الفساد وسوء الإدارة.
هذه الصورة المظلمة أرخت بثقلها على جلسة مجلس الوزراء الأخيرة وفتحت الباب أمام مواجهات سياسية عنيفة.
لكن، قبل الشروع في تفاصيل الواقع الصعب، هناك زاوية مضيئة تحمل الأمل. ففي آخر تواصل بين صندوق النقد الدولي والحكومة اللّبنانية كانت الأجواء إيجابية بخلاف التسريبات الإعلامية. لا بل أكثر من ذلك، فإنّ المسؤولين المعنيين في الصندوق أبدوا اهتمامهم بمضمون الخطة التي قدّمتها الحكومة اللّبنانية، وإرتياحهم لها، والتي من المفترض أن يكون «حزب الله» قد إطلع ووافق عليها من خلال وزيريه في الحكومة ومن خلال وزير المال.
لكن هذا المناخ الإيجابي في الكواليس، ظهر نقيضه في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة.
بداية، وقبل ربع ساعة فقط من إنعقاد الجلسة، أبلغ وزير المال غازي وزنة وبإسم الوزراء الشيعة الأربعة، رئيس الحكومة حسان دياب، أنّهم سيعلنون إستقالتهم من الحكومة إذا لم يتمّ سحب أو تعديل قرار الإثراء غير المشروع لناحية التدابير الآنية والفورية لمكافحة الفساد وإستعادة الأموال المنهوبة، والذي لا يعطي لوزير المال حقّ تكليفه هو الجهة المناسبة بإجراء التحقيق بمكافحة الفساد، معتبرين أنّ في ذلك تعدّياً على صلاحيات وزير المالية.
وجرى تفكيك هذا اللّغم من خلال تعديل القرار كما طلب وزنة.
ومنذ انطلاق الجلسة كانت الأجواء مشحونة ومحورها حاكم مصرف لبنان، مع تصاعد الأصوات المطالبة بضرورة إقالته، خصوصاً من قِبل الوزراء المحسوبين على «التيار الوطني الحرّ» و»حزب الله»، لكنّ الغريب أنّ هذه الدعوات لم تصل حدّ طرح الموضوع على التصويت وإتخاذ القرار، فالأغلبية الوزارية كانت مؤمّنة، وهو ما دفع البعض الى إعتبار أنّ المقصود كان حصول جسّ نبض وتوجيه رسائل حازمة وإستمالة الشارع.
في الواقع، بدا التباين أو ربما الإختلاف في الموقف للمرة الأولى منذ زمن، بعيداً بين «حزب اللّه» و»حركة أمل». وبخلاف التأويلات التي ظهرت، فإنّ موقف الرئيس نبيه برّي لم يكن لحماية بقاء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بقدر ما كان وجوب التوافق مسبقاً على إسم البديل: «فلماذا الإرتجال والتسرّع» كما نُقل عنه. وهو ما فُسّر بأنّه رفض من برّي في ترك جبران باسيل يضع يده على السلطة النقدية، أضف الى ذلك وفق أصحاب هذا الرأي، فإنّ أي فراغ في موقع الحاكمية إنتحار بسبب عدم وجود نوّاب للحاكم.
كما أنّ سعر صرف الليرة مرشّح لأن يتدهور بشكل دراماتيكي لا العكس، والهجوم العنيف الذي شنّه دياب على سلامة قد يكون أثار هواجس سياسية لدى برّي.
لكنّ الواقع أنّ دياب إستاء من اللّقاء الذي جمعه مع رياض سلامة بحضور وزير المال، وجاء هجومه من هذا المنطلق. فرئيس الحكومة الذي هاله الإنهيار السريع للعملة الوطنية، سأل الحاكم عن تفسيره لذلك، فأجابه أنّ العملة الخضراء باتت مفقودة في الأسواق، وهي متوفّرة بكمّيات قليلة عند الصيارفة. وسأل دياب عن حجم سوق الصيارفة، وكان الجواب أنّه ما بين 6 الى 10 ملايين دولار كحدٍ أقصى يومياً، وهو ما يعني حوالى 200 مليون دولار كتداول شهري. وكان جواب دياب: «يعني أننا بحاجة الى حوالى 140 مليون دولار شهرياً لضبط السوق عند سقف محدّد، ولدى مصرف لبنان 21 مليار دولار كودائع نقدية في الخارج، فلماذا لا نأتي بهذا المبلغ ونضمن السوق لمدّة عام من الآن؟». وكان جواب سلامة، أنّ المسألة ستأخذ وقتاً ليس بقليل، أضف الى ذلك إحتمال معارضة الأميركيين لدخول أموال نقدية الى لبنان بسبب الصراع الحاصل مع «حزب الله» والعقوبات عليه.
كما أثار دياب التعاميم الثلاثة الأخيرة لحاكم مصرف لبنان، غامزاً من قناة أنّها ساهمت بمزيد من التدهور لليرة اللّبنانية، وسأل دياب: «بيحرز تعميم الـ OMT وحركته حوالى 60 مليون دولار شهرياً فقط؟».
لكن ورغم هذه الأجواء المتشنّجة، لم يطرح مجلس الوزراء قرار إقالة سلامة. فالمسألة خاضعة لحسابات أخرى، رغم أنّ «حزب اللّه» الذي شارك وزيراه في الهجوم، يأخذ على سلامة السياسة المالية المتبعة منذ القرار الذي طال مصرف «جمّال ترست بنك».
في النهاية جرى إقرار خطوة التدقيق في حسابات وحركة مصرف لبنان، وهو الطلب الذي كان يتكرّر في كلّ جلسات مجلس الوزراء، فجرى إعتماد شركة KROLL ، وهي شركة متخصصة بتحقيقات الشركات وإستشارات المخاطر ومقرّها نيويورك، ومشهود لها في الكشف عن عمولات أو إحتيال أو أشكال أخرى من الفساد، وتلك الشركة حققت نجاحاً في كشف التحويلات المهرّبة في الموزمبيق على سبيل المثال.
وستتولّى هذه الشركة كشف التحويلات التي حصلت من مصرف لبنان الى الخارج في فترة أشهر معدودة، أمّا الشركتان الأخريان اللّتان ستعملان على التدقيق، فهما KPMG والتي زكّاها وزير المال، وهي تحظى بموافقة صندوق النقد الدولي، على أنّ يتولى العمل في التدقيق خبراء عن الشركة من خارج لبنان.
إضافة الى إختيار لاحقاً لشركة من ثلاث: ديلويت، إرنست ويونغ و PWC مع العلم أنّ شركتي ديلويت، وإرنست ويونغ تعملان حالياً بصفة التدقيق لصالح مصرف لبنان المركزي.
لكنّ الأهم أنّ مدّة صدور التقارير ستأخذ ربّما سنتين بسبب العودة للحسابات خمس سنوات الى الوراء.
لكن صندوق النقد الدولي يريد هو أيضاً تقارير شركات التدقيق على مصرف لبنان والقطاع المصرفي، كون المشروع المطروح هو إعادة الهيكلة.