من مفارقات المشاهد اللبنانية، أن تخرج خطة حكومية، يفترض انها مفصلية، أو تاريخية كما وصفها رئيس الحكومة حسان دياب، من دون أن تجرّ وراءها ذيول خلافات عمودية بين صنّاعها. وهي محطات نادرة في أرشيف الحكومات. خرج دياب بالأمس ليعلن أمام اللبنانيين الخطة التي ناقشتها حكومته على مدى ساعات وساعات، بمشاركة استشاريين وخبراء ومعنيين من مختلف القطاعات، بعدما نالت اجماع المكونات الحكومية… ولو أنّ هذه المكونات تنتمي إلى محور سياسي واحد، ولكن التباينات داخل هذا المحور لا تقل حدة، عن خلافات هذا المحور من جهة، وخصومه من جهة أخرى. ومع ذلك، خرجت الخطة سليمة غير مشوهة بفعل الاعتراضات.
ولكن ماذا بعد الخطة؟
لم يتردد دياب في الافصاح عن مسار الخطة بعد إقرارها في مجلس الوزراء: سنذهب إلى صندوق النقد الدولي وللمفاوضات الرسمية مع الدائنين. اذاً، لم تعد الطريق إلى صندوق يخشى البعض من سطوته واختراقه للسيادة اللبنانية، محاطة بالضبابية بعد حسمها من جانب رئاسة الحكومة. الصندوق ممر إلزامي لا بدّ منه، كما لا خشية منه، ولا فيتو عليه.
ولكن على خلاف الكثير من النماذج السابقة لدول استقبلت صندوق النقد على قاعدة برنامج مفروض منه مقابل تقديم يد العون، فإن لبنان هو من سيتوجه الى صندوق النقد متأبطاً خطة تراعي الاعتبارات اللبنانية.
وهذه نقطة مفصلية في مسألة التعامل مع الصندوق، كون “حزب الله” ربط موافقته على هذا الممر الدولي، بضرورة احترام السيادة اللبنانية والحؤول دون تحويل الصندوق ناظراً أو وصياً دولياً باسم برنامجه للمساعدات، خصوصاً وأن التطورات أثبتت أنّ لبنان لن ينال أي قرش اذا لم يستطع الحصول على “براءة ذمة” من الهيئة الدولية. وهذا ما دفع “الحزب” الى التعامل بواقعية مع “شرطية” المرور عبر “الصندوق”.
عملياً، هناك فرق كبير بين استيراد برنامج متكامل من الصندوق الدولي، لفرضه على الدولة المتعثرة مقابل مدها ببعض مليارات الدولارات، وبين أن تبادر الدولة المتعثرة الى وضع البرنامج الذي يلائم وضعيتها وخصوصيتها. لبنان من النوع الثاني، حيث قرر هو الذهاب نحو الصندوق بشكل يسمح له بألّا يكون أسير شروط لا تناسب طبيعته الاقتصادية والاجتماعية.
الأهم من ذلك كله، هو أنّ الخطة التي أقرها مجلس الوزراء لن تكون وثيقة جديدة يفترض بصندوق النقد تفنيدها من ألفها إلى يائها. لا بل يدرك المسؤولون المعنيون في الصندوق مضامين هذه الورقة جيداً، لا بل حتى ساهموا في بعض بنودها بعد التعديلات الأخيرة التي طرأت عليها على أثر تسريب النسخة الأولى. اذ تؤكد المعلومات أنّ نقاشاً غير رسمي أخذ مداه خلال الأسابيع الماضية بين مسؤولين ماليين في لبنان يعملون على الخطة ومسؤولين من صندوق النقد، بغية التوصل الى صيغة مشتركة من شأنها أن تلقى تأييد وموافقة الفريقين… وحتى الآن الاجواء أكثر من جيدة.
في هذه الأثناء، كانت وزارة المال في لبنان موضع اتصالات من جانب العديد من السفراء الأجانب، وتحديداً الأوروبيين، لتأكيد تفهمهم للخطة ودعمهم لبنان اذا ما نجح في الحصول على “توقيع” صندوق النقد الدولي. وهذا ما أوضحه وزير المال الفرنسي لنظيره اللبناني غازي وزني خلال اتصالهما الأخير.
وتفيد المعلومات أنّ الأوروبيين حريصون على مساعدة لبنان، وهم أعادوا التأكيد على أن مشاريع “سيدر” لا تزال مجمدة في الأدراج، بانتظار أن يستحصل لبنان على “فيزا” صندوق النقد وما يعني ذلك من اصلاحات يفترض به القيام بها، خصوصاً بعد تحوله الى دولة متعثرة دولياً.
اذاً، خطا لبنان خطوة أساسية في مجال انتقاله إلى “الجمهورية الاصلاحية”، وقد تمكنت الحكومة قبل بلوغها عتبة المئة اليوم من إنجاز الخطة المنتظرة، ولكنها بالنتيجة خطوة أولى في طريق طويل، حيث قد يواجهها الكثير من العقبات قبل أن تتمكن من فتح حنفية الدعم المالي من جديد.
ولتوفير الوقت و”التشوهات” التي قد تلحق بالخطة جرّاء عرضها على مجلس النواب، فقد حرصت الحكومة على عدم تضمينها أي اقتراحات قوانين، وبالتالي هي لن تخضع لمعمودية مجلس النواب باستثناء بعض البنود الضرائبية… على أمل أن تكون المفاوضات الرسمية مع صندوق النقد سريعة ومجدية لوقف التدهور المالي الحاصل ومحاصرة الغضب الشعبي.