منذ بداية مؤتمرات الدول المانحة من باريس 1 الى باريس 2 الى باريس 3 وصولاً الى مؤتمر «سيدر»، وحكومات لبنان تطرح أوراقاً إصلاحية من أجل الحصول على دعم مالي، الى أن أصبحت الإصلاحات إجبارية واستعادة الثقة عبر مظلّة صندوق النقد الدولي ممراً إلزامياً! العناوين ما زالت هي نفسها، بين حجم القطاع العام وحصته السنوية من الموازنة، خدمة الدين، تراكم عجز الكهرباء، وضرورة إشراك القطاع الخاص، وتصحيح سياسة سعر الصرف آخذاً في الاعتبار وضع ميزان المدفوعات… فما هو واقع هذه الملفات وأي مواقف منتظرة من صندوق النقد الدولي، بعد أن أقرّ الجميع أنّها أصبحت إصلاحات إلزامية؟
بين هول حجم القطاع العام الذي تخطّت كلفته 40 % من الموازنة السنوية (فيما المعدّل الدولي بين 10 و15% كحدٍ أقصى) كإنفاق جارٍ، يُضاف الى 40 % لخدمة الدين وعجز الكهرباء الذي تخطّى 11 % من الموازنة سنوياً، أصبح واضحاً من أين يبدأ الإصلاح مع أو من دون صندوق النقد الدولي… فيما الفارق الوحيد اليوم، هو أنّ الإصلاح بات إجبارياً للحصول على الدعم، بعد الإخلال بالوعود المقطوعة سابقاً لمؤتمرات الدول المانحة…
فمثلاً، بدل تخفيف ثقل القطاع العام، ازداد التوظيف السياسي والانتخابي في المؤسسات العامة حتى تخطّى 5300 موظف، بعد قانون وقف التوظيف! وخلافاً لكل دول العالم التي تعتمد المكننة للمعاملات العامة لتخفيف الحاجة للتوظيف العام، فقد بدأ لبنان المكننة في العديد من المؤسسات العامة، وباشر الطلب من المواطنين القيام بمهمات عديدة عبر مواقع الانترنت (من تصريح ودفع رسوم وغيرها…) وفي الوقت عينه تمّت زيادة التوظيف بدلاً من تخفيفه! أما قطاع الكهرباء، فيتسبّب بعجز مالي سنوي بين 1.5 و 2 مليار دولار وحصّة تفوق 11% من الموازنة السنوية وتراكم ديون يفوق 30 مليار دولار، ولم يتمكن لبنان من تأمين التيار الكهربائي، بل نظّم عمل المولّدات الخاصة في الأحياء، في حين ثمة تجارب، مثل إمتياز زحلة، أثبتت نجاحها وبكلفة أقل من مجموع فاتورتي الدولة والمولّد الكهربائي… وقد ظهرت دراسات عديدة لمشاركة القطاع الخاص، إنطلاقاً من تجارب دولية ومن الخصوصية اللبنانية، وقد تمّ تحديد الفصل بين الإنتاج والنقل والتوزيع، بانتظار استكمال الخطوات نحو الشراكة الموعودة…
اليوم استحقّت كل الملفات الإصلاحية لانتشال لبنان من انفجار الأزمة، عبر العمل على استعادة الثقة الدولية، التي خابت من تأخّر تنفيذ الاصلاحات.. وبعد تقديم الخطة، يمكن لصندوق النقد الدولي مساعدة لبنان، في حالة استيفاء شروط معينة، ولكن ذلك ليس حلاً فورياً، بل ينبغي على كل طرف فهم قيود الطرف الآخر…فبالنظر إلى حصّة لبنان الصغيرة في صندوق النقد الدولي – ما يعادل 861 مليون دولار – والشكوك في قدرة السلطات على تنفيذ ما سيكون برنامجاً صعباً للغاية، من المرجح أن يوظف صندوق النقد الدولي بين 3 و 5 مليارات دولار، 4 إلى 5 أضعاف حصّة صندوق النقد الدولي في لبنان. ومع ذلك، فإنّ الأهمية تكمن في استعادة ثقة المجتمع الدولي، من خلال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وبفضله، كشرط مسبق لتأمين تمويل إضافي… وبذلك من المرجح أن تطلب الحكومة اللبنانية تمويلاً إضافياً من البنك الدولي، من خلال الدول التي تعهّدت بمساعدة لبنان في مؤتمر «سيدر» في باريس في نيسان 2018 ، وربما بعض دول مجلس التعاون الخليجي. مع العلم أنّ الموارد المالية للبلدان المانحة محدودة، بسبب الركود المرتبط بوباء كورونا وانهيار أسعار النفط …
أما لجهة سياسة سعر الصرف التي استنزفت احتياطي العملات الأجنبية، فمن المؤكّد أنّها تتجّه لاعتماد خيار التحرير التدريجي لسعر الصرف، بعد التمكّن من الدفاع عن هامش معيّن لتحرّكه، بحيث لا يكون التحرير الرسمي الفجائي سبيلاً لتفلّت خيالي لا يمكن ضبطه.. مع الأخذ في الاعتبار خصوصيات الاقتصاد اللبناني، ان لجهة وضع الحساب الجاري وميزان المدفوعات، وأيضاً احتياطيات النقد الأجنبي، أو لجهة القدرة التنافسية للمنتجات المحلية، والتي لا تتماشى كثيراً مع ايجابيات انخفاض سعر الصرف، كون معظم مدخلات الصناعة اللبنانية (أي مواد أولية ومنتجات تدخل في الصناعات اللبنانية) هي مستوردة، أي أنّ أسعارها بالليرة سترتفع مع انخفاض قيمة العملة الوطنية، مما يؤثر سلباً على كلفة الانتاج المحلي وبالتالي أسعار المنتجات الوطنية وقوّتها التنافسية.
أما في ما يتعلّق بالمالية العامة، فالاتجاه وفق خطة اعادة الهيكلة هو لتخفيض حاد للديون، يضمن استدامة الدين العام (أي نسبة الدين العام / الناتج المحلي الإجمالي والتي لا ينبغي أن تتجاوز 60 إلى 90 % ) تطمئن الدائنين الى إمكانية السداد المستقبلي، وبالتالي تحسّن تصنيف لبنان السيادي من مؤسسات التصنيف الدولية (فيتش، موديز، ستاندرد اند بورز…) مما يساعد أكثر في تخفيض الفوائد على سنداته الجديدة.
إلّا أنّ إعادة الهيكلة الحادة للديون، تعني مباشرة زيادة الخسائر للدائنين الحاليين، ولاسيما منهم الجهاز المصرفي، الدائن الأبرز للدولة اللبنانية، مما يعني ذلك قلقاً من تأثيرات على القطاع المصرفي وكبار المودعين، لناحية المساهمة في إعادة الرسملة وتحويل جزء من ودائعهم الى أسهم، على ما اقترحته خطة الحكومة لـ 2 % من المودعين الذين تفوق ودائعهم الـ500 مليون دولار… على أن يُصار تباعاً الى إعادة رسملة النظام المصرفي وإعادة هيكلة مصرف لبنان….بانتظار بداية دعم النمو الاقتصادي عبر مشاريع منتجة وقادرة على خلق فرص العمل، ليكون توجّه المصارف الأساسي لتمويل الاقتصاد والاستثمار الخاص، بدلًا من توجيه معظم المدخرات لتمويل الدولة..فضلاً عن خفض الدعم وتحسين إدارة الضرائب والجمارك ومكافحة التهرّب الضريبي كما التهريب عبر الحدود ومكافحة الفساد…
كذلك استحقّت الاصلاحات الجذرية في القطاعات الخدماتية العامة، عبر الخصخصة أو أقله إشراك القطاع الخاص، من باب زيادة الانتاجية والفعالية وإطلاق عجلة الاستثمار والمنافسة وضبط الهدر وتحسين مؤشر النوعية/ السعر وتحمّل الدولة مسؤولياتها عبر أصولها التوجّه الى دائنيها.
وفي ما يتعلق بالبعد الاجتماعي للبرنامج، من الأرجح أن يكون صندوق النقد الدولي حساساً للغاية، لتأثير الركود الاقتصادي على الفئات الاجتماعية الأضعف في لبنان، وذلك عبر حماية الإنفاق الاجتماعي والتركيز على التوزيع العادل اجتماعياً لعبء التكاليف للبرنامج الحكومي المرتبط بصندوق النقد الدولي. والمعلوم أنّ هذه المقبولية الاجتماعية باتت مفتاحاً لنجاح توصياته …
يبقى القول، إنّ لبنان مع «صندوق النقد الدولي بات «مضطراً» الى تنفيذ الإصلاحات التي وعد بها في أوراقه الموجّهة إلى مؤتمرات الدول المانحة، واستحقت الالتزامات بالخصخصة وتخفيض ثقل القطاع العام على الموازنة، والحل الجذري لقطاع الكهرباء، والتحرير التدريجي لسعر الصرف في ضوء حالة ميزان المدفوعات وتعزيز هياكل الإنتاج المحلي..
الطريق أصبح واضحاً، المهم تخطّي مطباّته وتفادي مخاطره وقوننته بشكل سليم، حتى لا تتحوّل الخصخصة سبيلاً للاحتكار الخاص، ولا يصبح تخفيض الانفاق حجة لتفادي التدخّل الاجتماعي، ولا يكون تحرير سعر الصرف فوضى غير مضبوطة للأسعار والقدرة الشرائية للمواطنين.