IMLebanon

وضعنا المالي في المفاوضات غير سليم وغير متكافئ!

 

منذ أن سُرّبت النسخة الأولى من خطة الحكومة للإصلاح الاقتصادي والمالي، إتفق معها كثرٌ ونحن منهم في تشخيصها للحالة الاقتصادية والمالية في لبنان، واختلفوا معها جذرياً في مقاربتها الراديكالية للحل، خصوصاً لجهة الإطفاء الكامل لديون الدولة السيادية على حساب المصرف المركزي والمصارف عموماً والمودعين تحديداً، في ظل نكران سافر لمسؤولية الدولة تجاه دائنيها في مقابل حل تدرّجي لا يُحلّ الدولة من مسؤوليتها المالية الكاملة تجاه دائنيها في الداخل، وتحقيق إصلاح حقيقي وذات معنى، يبني على ما تبقى من قوى في الاقتصاد والقطاع المصرفي والمصرف المركزي لوقف الانزلاق الحر للاقتصاد اللبناني.

بعدها سحبت الحكومة النسخة المسرّبة، واستبدلتها بعد مرور وقت قصير بنسخة نهائية معدّلة، من دون أن تجري تعديلات حقيقية، إلا في إطار غير مؤثر في السياق العام للخطة. وطاَول هذا التعديل بعض مؤشرات نمو الاقتصاد والمالية العامة وسعر الصرف، وتمسّكت بمقاربتها الرقمية الحساسة للشأن الاقتصادي والمالي والنقدي. وتمّ توزيعها والموافقة عليها بالإجماع في إحدى جلسات مجلس الوزراء.

 

حيال هذا التمترس وراء الخطة من قبل واضعيها وعرّابيها في مختلف فصولها وتفاصيلها كافة، أتت مقاربة المصرف المركزي لمستوى العجز وكذلك مساهمة جمعية المصارف في خطة الحكومة للإصلاح، خلال المحادثات مع صندوق النقد الدولي، التي لا تزال تراوح مكانها بعد 13 اجتماعاً، وإفشال محادثات توحيد أرقام العجز الذي طالب به الصندوق أخيراً، مما أدى إلى حسم هذا الأمر بالبيان الذي صدر عن الاجتماع المالي الذي عُقد في القصر الجمهوري للتداول في الأرقام المتعلقة بالقطاع المالي، معلناً «توافق» المجتمعين على أن تكون الأرقام الواردة في خطة الحكومة المالية، منطلقاً صالحاً لاستكمال المفاوضات مع صندوق النقد.

 

ويشير ذلك إلى أنّ ما كُتب قد كُتب، والمحادثات في شأن توحيد أرقام العجز مع المصرف المركزي والاستئناس بمساهمة جمعية المصارف كانت لرفع العتب، وكذلك في هذا الإطار تجاهل الجهد الجدي الذي تضطلع به لجنة المال والموازنة في المجلس النيابي، وعدم الاستجابة لِما رشح عن الاجتماع في القصر الجمهوري لطلب رئيس مجلس الوزراء ووزير المال تأجيل التوافق ليومين أو ثلاثة، والموقف المُتمايز والموثّق من قبل حاكم مصرف لبنان.

 

أثار هذا الإعلان إلى الآن، ردود فعل مُحقة وحقيقية، تراوحت بين خيبة الأمل والإحباط والقلق والغضب، المشاعر التي تلازم الشعب اللبناني كلّ من منظوره وبفئاته كافة.

 

من جهتي، فقد أملتُ خيراً في جدية مجلس النواب في التدخل للوصول إلى أرقام موحدة، من شأنها أن تكون نتيجة كافية لتبنى عليها خطة إصلاحية إنقاذية، توقِف الانزلاق الكلي والحر الحاصل في البلد، وتؤسّس لانطلاقة اقتصادية مُستدامة على المَديين القصير والمتوسط. وكل ذلك مع إدراكي التام من جهة، للفجوة الكبيرة بين المقاربة الراديكالية المكيافيلية، والمقاربة التدرجية العقلانية العادلة والمتعاطفة، وحذري الشديد من إمكانية توافر أي مرونة أو المرونة الكافية عند فريق خطة الحكومة الاقتصادية للوصول إلى الحل المنشود عن قناعة علمية ومهنية، وليس بالمساومة التي يجب أن تكون مرفوضة بالمبدأ وبالفعل من جهة ثانية.

 

ينطلق حذري هذا منذ أن أوكلت «حكومة اللون الواحد» إلى عدد قليل من المستشارين، ومعهم «لازارد»، تطوير خطة لإصلاح اقتصادي ومالي ونقدي بالغ التعقيد، لبلد سُلب ونُهب وهُدرت موارده واستُبيحت حدوده دخولاً وخروجاً… يجمعهم فكر رقمي واحد. اختاروا أن يتفرّدوا في تطوير هذه الخطة، من دون أن يشاركوا أصحاب العلاقة المباشرين، أي المصرف المركزي وجمعية المصارف، أو أيّ من أصحاب الاختصاص والخبرة المتعددي المواهب. فجاءت الخطة طموحة وجافة ومن دون خجل على صعيد إصلاح المالية العامة، وقاسية بتطرّف وفوقية مُقلقة على القطاع المصرفي والمصرف المركزي، واستباحة مفرطة لودائع الناس. وتطلب من الشعب اللبناني أن يضحّي بكل ما يملك كمّاً ونوعاً، في سبيل نمو الناتج المحلي في العام 2024، مقوّماً على دولار بسعر 4000 ليرة، يعادل تقريباً نصف الناتج المحلي في العام 2019.

 

ونُمي أنّ أرقام الخطة نُسّقت مسبقاً مع صندوق النقد الدولي، وما يعزّز هذه الفرضية أنّ ممثل الصندوق في المفاوضات أعلن في إطلالته الإعلامية الأخيرة أنّ «المفاوضات بنّاءة وتسير في الاتجاه الصحيح»، وأنها ما زالت «في مرحلة فهم الخطة». وفي خضمّ الاجتماعات لتوحيد الأرقام وانتظار نتائجها، صرّح أنّ أرقامه «أقرب إلى أرقام خطة الحكومة».

 

الآن عقب «التوافق» على أرقام خطة الحكومة، بات هذا الاستكمال أقرب إلى المحادثات منه إلى المفاوضات.

 

وفي رأيي، أنّ المستشارين الذين طوّروا الخطة أصبحوا أسرى لها، ويشجعني في هذا أنها مذ كانت إلى الآن، لم يفلح رأي أو مقاربة أو مساهمة أو لجنة برلمانية في تعديل حرف منها. وفي هذا الإطار أيضاً، لم يُستجب طلب رئيس وزارة أو وزير يترأس الفريق المفاوض بتأجيل «التوافق» ليومين أو ثلاثة، أو انتظار حصيلة جهد برلماني جدي ودؤوب لتوحيد الأرقام.

 

ومنذ ولادة هذه الخطة، كان الذين افترقوا عنها أكثر بكثير ممّن تحلّقوا حولها. وعلى الصعيد العملي، فاقمت هذه الخطة أيضاً قلق المودعين على حقوقهم، ما زاد من تدفّقهم على المصارف. وركّزت تخلّف الحكومة عن دفع مستحقاتها في الخارج والداخل، وأكدت تراجع سعر الصرف بتضمين تقلباته في الخطة، إلى مستويات أعلى من تلك التي كانت في الخطة المسرّبة، بالإضافة إلى الضرائب والاقتطاعات التي وردت، فضلاً عن الشك شبه الأكيد في تحقيق الإصلاحات التي تضمنتها الخطة، وتداعياتها التضخمية والانكماشية على الاقتصاد الكلي STAGFLATION ، و»التوافق على أرقامها كأساس لاستكمال المفاوضات مع صندوق النقد وبالأخص الاستباحة الطوعية للودائع، والتي تحرم لبنان من تأكيد خصوصيته، كون دينه السيادي داخلي، ما يستدعي أخذ هذا الأمر في صلب الحلول المقترحة. وهذا كله يجعل من الخطة أرضية floor للمفاوضات وليس سقفاً CEILING لها.

 

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ صندوق النقد الدولي ليس مُنزلاً ولا منزّهاً ولا معصوماً، إذ انّ في سجل أدائه إخفاقات تفوق النجاحات. والصندوق مثله مثل أي مؤسسة مشابهة، يهمّه النجاح واسترداد الأموال التي أقرَضها. وكذلك هدفه عزل إمكانيات إخفاقاته، وتعزيز إمكانيات نجاحه، ولبنان يشكل حالة صعبة ومعقدة، ويتداخل فيها الاقتصاد والمال والسياسة ونموذج الصندوق الاقتصادي الإنقاذي المبني على حل واحد لجميع الحالات المماثلة ONE SHOE FITS ALL، لم يثبت جدواه المطلقة. في هذا المحتوى، لبنان حالة خاصة تستدعي حلاً على مقاسه، وهنا بيت القصيد في المفاوضات.

 

في المحصّلة، انّ إنقاذ الاقتصاد الوطني وإعادة بنائه بكل مكوّناته «قضية وطنية» تلزمها خطة وطنية موضوعية وعادلة وعارفة بخلق وإبداع، وجامعة وواثقة، تعزّز موقفنا الوطني في أية مفاوضات مع الصندوق أو أية مؤسسات مماثلة ومتخصّصة عالمياً، وهذا الأمر ليس صعب المنال، فالخطط المطروحة مع ما أمكن من الابتكار تكون كافية ووافية، ومن الممكن تحقيقها بالفعالية والفاعلية المطلوبة عند صفاء النوايا وبعض التواضع والجدية. وعندها، نفاوض عن لبنان وليس عن ذواتنا. إنّ وضعنا الحالي، خطّة وموقعاً في المفاوضات، غير سليم وغير مطمئن وغير متكافئ وغير جامع، المكابرة خسارة نجحت أم فشلت، والشجاعة نجاعة، والوحدة قوة، والعناد في غير موقعه تفريط بأمن البلاد وأمان واطمئنان العباد.

 

المطلوب إعادة الأمور إلى نصابها وإلى مسارها الموضوعي والمهني أمس قبل اليوم، ولو اقتضى هذا الأمر التعليق المعلّل لاجتماعات صندوق النقد الدولي لأسبوعين أو ثلاثة، يتم خلالها تسريع الإصلاحات ذات الأولويات العليا.

 

إنّ تحويل اقتصاد لبنان من ريعي إلى منتج، لا يكون بإنكار الدولة لديْنها، التي استدانت لتمويل فسادها وهدرها، وبهيكلة قيصرية للمصرف المركزي والمصارف، وهيركات مقنّع أو سافر لودائع الناس – وأيّ دفاع عن الخطة بعدم حصول هيركات هو إهانة شفافة لذكاء الناس وتكبيل لاقتصاد لبنان الكلي، وإفقار شعبه وتغيير نمط عيشه – بل يكون بعدم تخلّف الدولة عن دينها، وقيامها بالإصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها. بهذا وحده يمكن استبدال المثلث المتمثّل بالمصرف المركزي والمصارف والدولة، والذي أوصَل البلد إلى ما هو عليه الآن، بالمثلّث المنتج المتمثّل بالمصرف المركزي والمصارف والاقتصاد.