هل هي مجرد لعبة أرقام بين الحكومة التي قدّمت خطة إنقاذ وضع عناوينها فريق من المستشارين، وخطة مضادة خلُصت اليها لجنة المال والموازنة النيابية، أم أنّ الأمر أبعد من ذلك، ويرتبط بالطريق الذي سيمضي عليه اللبنانيون خلال السنوات العشر، وربما العشرين المقبلة؟
نجحت الدولة اللبنانية حتى الآن في تسجيل سابقتين في تاريخ تفاوض الدول مع صندوق النقد الدولي للحصول على برنامج مساعدات. السابقة الاولى من خلال طرح وفدها الرسمي رؤيتين متناقضتين للحل، ولائحتين متضاربتين لأرقام الخسائر التي تتوجّب معالجتها. والسابقة الثانية تمثلّت بتقديم حكومتها خطة للإنقاذ، تبيّن لاحقاً انّ الخسائر المقدّرة فيها مُبالغٌ فيها الى حدود اللامنطق.
لكن السابقة الثالثة على الطريق أيضاً، إذ أنّ شوفينية البعض، والشخصنة لدى من يتعاطى الشأن العام، ستؤدّي الى تصرفات غير موزونة، كأن يبدأ فريق من هنا يمثل الحكومة، وفريق من هناك يمثّل رؤية المجلس النيابي، التواصل مع مسؤولين في صندوق النقد في محاولة لإقناعهم بأرقامهم. ومن خلال الانطباع العام، تحولت المعركة حالياً من عملية تنافس مشروع لتقديم الرؤية الافضل، الى منافسة شخصية فيها كسر عظم، ويرتبط بنتائجها مصير مسؤولين ومستشارين…
في عودة الى الواقعية، ومن خلال اجراء مقارنة بين أرقام الحكومة من جهة، وارقام لجنة المال والموازنة المرشّحة لأن تصبح أرقام المجلس النيابي، يمكن ملاحظة الامور التالية:
اولاً- هناك أرقام في خطة الحكومة تبيّن بالدليل القاطع انّها كانت غير صحيحة بنسبة تدعو الى الدهشة، مثل ارقام ديون القطاع الخاص المتعثرة لدى المصارف. هذا الموضوع لم يحسمه ابراهيم كنعان أو ياسين جابر أو نقولا نحاس، بل حسمته لجنة الرقابة على المصارف، بما يعني انّ حسمه أدق بكثير مما كان عليه في الخطة الحكومية. والفارق بين تقديرات الحكومة ولجنة الرقابة على المصارف، وهي الأدرى بهذا الملف، وصلت الى رقم قياسي مذهل، يستدعي التساؤل، كيف ومن أين توصّل المستشارون الذين أعدّوا الخطة الحكومية الى هذا الرقم؟
ثانياً – انّ الحكومات في العادة تذهب الى صندوق النقد بأرقام تمثّل الحد الأدنى من الخسائر، لأنّها تدرك مسبقاً انّ الصندوق سيسعى الى اعادة تكبير هذه الارقام، انطلاقاً من دراساته وأبحاثه الخاصة، وانطلاقاً ايضاً من حقيقة، انّ من يريد الاقتراض يحاول دائماً تجميل وضعه قدر المستطاع لإقناع المُقرض بأنّه قادر على إعادة سداد ديونه.
ثالثاً- اختلفت المقاربة بين الخطة الحكومية وخطة لجنة المال والموازنة. بمعنى انّ الموضوع تجاوز مسألة الرقم الى الاستراتيجية التي ينبغي اتباعها للخروج من النفق. وهكذا استبدلت لجنة المال فكرة شطب الديون عشوائياً، بما فيها الديون بالليرة، والقضاء على القطاع المالي، واحتساب الاستحقاقات بالكامل، باستراتيجية عدم اعلان التوقف عن الدفع بالنسبة الى سندات الليرة، واحتساب خسائر استحقاقات القروض حتى العام 2027 فقط.
رابعاً- حتى الآن، ومن خلال الاشارات الاولى التي أرسلها صندوق النقد، يتبيّن أنّ خبراءه يدعمون أرقام الخطة الحكومية. هذا الموقف طبيعي وبديهي، لأنّه يشبه من حيث الشكل موقف «موظف» في مصرف، مسؤول عن منح الموافقة على القروض. هذا الموظف لديه لائحة معايير وأرقام وضعتها ادارة المصرف. كل ما يفعله انّه يقارن أوراق طالب القرض بهذه المعايير، واذا ما جاءت مطابقة يمنحه القرض. وبالتالي، لا يحبّذ هذا الموظف، ولا يستطيع تجاوز المعايير إلّا اذا رجع الى المسؤول الاعلى منه. هذا التوصيف ينطبق على الخطة الحكومية، التي راعت المعايير الرقمية لصندوق النقد الى أقصى الحدود، بحيث لم يجد خبراء الصندوق حاجة الى مناقشة أو الاعتراض على هذه الارقام، لأنّها ذهبت بعيداً بما يتجاوز المعايير المطلوبة. لكن المشكلة ليست لدى الصندوق هنا، بل ستظهر لاحقاً في الاقتصاد اللبناني، وهنا تكمن اولوية المفاوض اللبناني، أي حماية مستقبل الاقتصاد، وليس مجرد تلبية متطلبات الارقام للحصول على قرض.
في التفاوض مع صندوق النقد، وعلى عكس الهندسات المالية أو ما شابه، البلد لا يشتري الوقت بل يفاوض على انقاذٍ يوصل الى تعافٍ اقتصادي مستدام.
في عودة الى الارقام، من الملاحظ انّ الخطة الحكومية، ومن بعدها الخطة التي قدّمتها المصارف، ورغم عشرات الصفحات التفصيلية التي تحدثت عن الرؤية المستقبلية للاقتصاد، إلّا أنّ النقاش الشعبي والسياسي ينحصر حتى الآن في لعبة الارقام، وكأنّ المشكلة هنا فقط. الأرقام واحدة من الوسائل المعتمدة لتحقيق مكاسب تخدم الاقتصاد. لكن، من يعتقد انّه قادر على حسم الارقام بدقة، والادعاء أنّ أرقامه دقيقة ولا تحتمل النقاش واهمٌ الى أقصى الحدود. وما جرى مع اليونان، عندما انضمت الى عملة اليورو الموحّدة في العام 2001 دليل لا لَبس فيه. ورغم القدرات الهائلة التي تتمتع بها المؤسسات المالية الرقابية الاوروبية، ورغم الاستعانة بمؤسسات مالية عالمية متخصصة، ورغم التدقيق الذي جرى في تلك الفترة، خصوصاً انّ الشكوك كانت تحيط بوضع اليونان المالي الحقيقي، رغم كل ذلك، نجحت اليونان في إقناع مؤسسة النقد الاوروبي بأرقام غير صحيحة، وصل الفارق فيها الى مستويات كبيرة، وربما مُذلّة للبنك المركزي الاوروبي، الذي انطوت عليه الخديعة. وعلى سبيل المثال، أقرّ الاتحاد الاوروبي بأنّ العجز في موازنة اليونان ينطبق على شروط معاهدة «ماستريخت»، أي أنّه لا يتجاوز الـ3% من الناتج المحلي (GDP)، وأنّ دينها على الناتج لا يتجاوز الـ60%. هكذا انضمت اليونان الى العملة الاوروبية الموحّدة، وتنعمت بخيرات هذا الانضمام. ولو لم تتصرّف الحكومات اليونانية اللاحقة بتهور وزبائنية، لكانت مرّت الخديعة بسهولة، ولما وصلت اليونان لاحقاً الى أزمة الافلاس التي استدعت إنقاذها. وللتذكير، تبيّن انّ العجز في موازنة اليونان على الناتج كان حوالى 12,7% بدلاً من 3%، في العام 2001، ونسبة الدين على الناتج أعلى قليلاً من 100% بدلاً من 60% كما ادّعت وصادق على ادعائها الاتحاد الاوروبي بعد استقصاءات ودراسات محترفة!
خلاصة هذا النموذج، انّ الحكومات ينبغي أن تستخدم كل اسلحتها، بما فيها الأرقام، للحصول على أفضل الممكن، لا أن ترمي كل أسلحتها وتذهب الى التفاوض من دون أسلحة.