لا شرق ولا غرب… الحلّ لبناني بإمتياز وجوهره المغتربون اللبنانيون
لا لرهن موارد البلد للخارج… اللبنانيون أحقّ بمواردهم والمغتربون هم اللولب
إعتقدت الحكومة أنه بمجرّد أن تضع قيمة لليرة اللبنانية في خطتها، فإن الأسواق ستلتزم بهذه القيمة! هذا الفكر نسي أو تناسى أن قدرة السوق تفوق قدرة دول وحكومات على فرض سلوك على الأسواق. وعندما تقول الأسواق كلمتها، لا يُمكن لأحد أن يُغير الواقع بحكم أن كلمة الأسواق هي كلمة الأعداد الكبيرة (Loi des Grands Nombres ) أي لا يُمكن للدوّلة أو حتى لمصرف لبنان تغيير هذا الواقع الذي فرضته الأسواق.
العمليات الإقتصادية مبنية على مبدأ إقتصادي شهير وهو «المصلحة الذاتية العقلانية». وكلمة الأسواق تُصبح وازنة عندما تُصبح المصلحة الذاتية العقلانية للفرد هي نفسها لعدد كبير من اللاعبين الإقتصاديين. في هذه الحالة تذهب الخيارات الإقتصادية في نفس الإتجاه وينتج عنها ما ينتج من تداعيات. وأفضل مثال على ذلك هو ما يحصل مع الليرة اللبنانية التي فقد الشعب اللبناني الثقة بها خصوصًا بعد طرح الحكومة خفض قيمتها وتوقفها عن سدّ إستحقاقات سندات اليوروبوندز مما حرم الدوّلة من أخر مصدر للدولارات، وبالتالي أخذ كل اللبنانيين يسعون إلى تبديل الليرات التي يملكونها بدولارات.
التهافت على الدولار الأميركي مُحقّ بجزء وجريمة بجزء أخر. الأحقية آتية من أن المسؤولين أنفسهم شككوا بالليرة بعدما كانت ثابتة على مدى عقود وبالتالي لا يُمكن أن نلوم المواطن العادي على رغبته التخلّص من الليرة والحصول على الدولار. لكن في المقابل وبحسب قانون الأعداد الكبيرة، هذا الخيار هو نحر لليرة اللبنانية وقضاء على قيمتها ومن خلفها القضاء على القدرة الشرائية للمواطن نفسه أي إنتحار جماعي.
ظن البعض أنه يكفي أخذ القرار في مجلس الوزراء ليصبح أمرًا واقعًا، لكنه تناسى أن للأسواق كلمة أخرى. فقدت الحكومة السيطرة على سعر صرف الليرة الذي أصبح رهينة التجاذبات السياسية الداخلية ومع الخارج ورهينة عصابات مافياوية تُتاجر بالضمير وبالوطن وبالإنسان.
دفاعنا عن ثبات الليرة في الأعوام الماضية لم يأت من عدم، بل هو نتاج قناعتنا بدور الثبات النقدي في الأمن الإجتماعي. وهذه القناعة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من إستراتيجيات الدول العظمى التي تعتمد ضرب العملة الوطنية بدل شن حرب عسكرية نظرًا إلى أن مفاعيل ضرب العملة أكبر بكثير من مفاعيل الحرب العسكرية بحكم ضربها جوهر الأمن الإجتماعي.
طبع الليرة
العجز في الموازنة العامّة بلغ حدود الـ 5 تريليون ليرة لبنانية (أي 5 ألاف مليار ليرة لبنانية). هذا العجز الواجب تمويله من مكان ما، يطرح سؤال جوهري: من أين تموّل الحكومة هذا العجز؟
الحكومة اللبنانية أعلنت التعثّر في دفع مُستحقاتها من الدين العام في 7 أذار 2020، وذهبت أبعد من ذلك عبر إعلان الإفلاس الداخلي للقطاع الخاص من خلال إستخدام تقنية الأكاورديون (accordion ) والتي تنصّ على تصفير القطاع المصرفي (رأسمال المصارف) ومعه كبار المودعين على أمل أن تُعاود ضخّ الأموال في القطاع الخاص من خلال خمسة مصارف جديدة برأسمال 200 مليون دولار كل مصرف.
بالطبع هذه التقنية التي تمّ إستخدامها في فرنسا لإنقاذ « USINOR»، لا تصلح في حال لبنان بحكم أن تطبيقها يتمّ على قطاع كامل وليس على شركة واحدة بالإضافة إلى أن الوضع المالي للحكومة الفرنسية (الضامن الأساسي في العملية) لا يُشبه الوضع المالي للحكومة اللبنانية. وبالتالي فإن هذه العملية أفقدت المُستثمرين كل ثقة بالإقتصاد اللبناني ولكن أيضًا بالقوانين اللبنانية إذ كيف يُمكن للحكومة العبور فوق قدسية الملكية المنصوص عليها في الدستور؟
المؤسف في الأمر أن الفكر اليساري المعروف تقليديًا برُقيّه وإنحيازه للإنسان دون أن يكون ضدّ الرأسمالية بالمطلق (على مثال الحزب الإشتراكي الفرنسي)، تمّ تحويره في لبنان لضرب رأس المال وتم تسمية كل من يُعارض خطة الحكومة بالمنتسب إلى «حزب المصارف».
على كل الأحوال سياسة الحكومة (بالإضافة إلى فايروس كورونا) أدّت إلى تراجع النشاط الإقتصادي الذي أصبح يقتصر بقسم كبير على التجارة أي الإستيراد من الخارج والبيع في السوق المحلّي. وبالتالي فإن المداخيل المالية تراجعت حيث أن الدوّلة تتموّل من مصرف لبنان والمواطن من مدخراته بالدرجة الأولى ومن أجره الشهري (إذا ما وجد) بالدرجة الثانية.
هذا الأمر يعني أن هناك تآكلاً للثروة في لبنان وهو ما سينعكس حكمًا في قيمة الليرة اللبنانية.
قيمة الليرة اللبنانية إقتصاديًا لا تتجاوز الـ 2000 ليرة لبنانية للدولار الواحد، إلا أن عملية تمويل الخزينة وما يليها من طبع للعملة، سيكون له تداعياته الهيكلية على قيمة الليرة إذا ما إستمرّ الوضع على ما هو عليه. أضف إلى ذلك أن الواقع السياسي الحالي الذي يؤجّج عملية المضاربة على الليرة والذي يدك مضاجع الإقتصاد من خلال تضخمّ الأسعار المُفرط الذي قد يُشكلّ أكبر ضربة لليرة اللبنانية إذا ما إستمرّ على الوتيرة نفسها.
المفاوضات مع صندوق النقد
ينتشر مُعتقد لدى الجميع أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي مُتعثّرة بسبب تباين الأرقام بين الحكومة، لجنة المال والموازنة والقطاع المصرفي. ويتم الحديث عن أن صندوق النقد الدولي يُطالب بتوحيد الأرقام حول أرقام الحكومة بحكم أنها أقرب إلى الواقع للإستمرار في عملية التفاوض.
هذا الحديث غير دقيق على الرغم من أن صندوق النقد وعلى لسان أحد المسؤولين أيّد أرقام الحكومة، إلا أن صندوق النقد له مصلحة في تضخيم الخسائر من ناحية أنه ليس هو من سيدفع الفاتورة، بل ستقتصر مساهمته على عشرة مليارات دولار أميركي في أحسن الأحوال لدين عام يبلغ 90 مليار دولار أميركي على سعر 1507.5ليرة للدولار الواحد.
في المضمون الخلاف مع صندوق النقد يصطدم بعقبتين هما:
أولاً – إجراء إصلاحات عامة وشاملة تطال بالدرجة الأولى القطاع العام ومحاربة الفساد؛
ثانيًا – عزل لبنان عن الصراعات الإقليمية من خلال ما يُسمّى بالحياد وهو أمر له أبعاد سياسية عميقة.
هذا الواقع تمّت ترجمته بالتحرّك الذي يقوم به البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي تجاه فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حيث أن اللقاء الذي حصل البارحة كان محوره سياسة الحياد.
الضغط الأميركي على لبنان أصبح مكشوفًا وقدّ صرّح العديد من المسؤولين الأميركيين عن هذا الأمر من خلال المطالب السياسية التي أعلنوها. وما تقرير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى والصادر في تشرين الثاني من العام الماضي والذي تمّ عرضه أمام لجنة من الكونغرس الأميركي، إلا دليل واضح على أن ما يعيشه لبنان حاليًا له جذور سياسية بالإضافة إلى الفساد المُستشري.
لبننة الحلول
من الواضح أن التعقيدات الحاصلة خصوصًا في الشق السياسي ستمّنع أي حلول آتية من الغرب حتى أن الدول الراغبة مساعدة لبنان لا يُمكنها ذلك نظرًا إلى عدم قدرتها على تخطّي الرغبة الأميركية التي يواجهها أيضًا رفض بعض القوى السياسية داخليًا. أضف إلى ذلك أن التوجّه إلى الشرق ليس بقرار سهل خصوصًا أن الدول المرشحّة لمساعدة لبنان مثل العراق، إيران، روسيا تُعاني من مشاكل مالية لا تسمح لها بإخراج لبنان من أزمته الحالية.
من هذا المُنطلق، نرى أن الحلّ الوحيد المُمكن هو حل لبناني بإمتياز. وينص الحل على القيام بإصلاحات جدّية لإستعادة الثقة على أن يتمّ إشراك المُغتربين في عملية الإنقاذ:
– الخطوة الأولى الواجب القيام بها هو بدء الحكومة بعملية إصلاحية شاملة مدخلها إستقلالية القضاء ومحاربة الفساد في كل مؤسسات الدولة، على أن تطال أيضًا الكهرباء، الجمارك، المطار، الإتصالات، المجالس والصناديق، القطاع العام… مثلا تطبيق ورقة بعبدا المالية الإصلاحية التي أًقرّت في أيلول من العام الماضي مدخل جيّد للبدء بالإصلاحات.
– الخطوة الثانية هي إقرار المراسيم التطبيقية لقانون الشراكة مع القطاع الخاص وقانون حق الوصول إلى المعلومات وبدء عملية ممنهجة للتحقيق في ثروات السياسيين ورجال الأعمال وموظفي الدوّلة.
– الخطوة الثالثة تنص على إشراك المُغتربين اللبنانيين في الحلول من خلال دعوة ممثلين عنهم إلى لبنان للمشاركة في إجتماعات مصيرية تهدف إلى ضخّ الأموال في صندوق التعافي على أن يكونوا مشاركين في عملية الرقابة على هذا الصندوق من ألفه إلى يائه.
– الخطوة الرابعة تنصّ على إستعادة ثقة المواطنين اللبنانيين الذيي يُخزنون ما يزيد عن 8 مليار دولار أميركي في منازلهم ودعوتهم إلى الإستثمار في صندوق التعافي.
– الخطوة الخامسة تنصّ على إشراك الجامعات والمجالس الإقتصادية في إقتراحات حلول للنهوض بالإقتصاد اللبناني على مثال المدن التكنولوجية التي تجمع ثلاثية الدولة، القطاع الخاص والجامعات والتي بنت مجد الولايات المُتحدة الأميركية.
في الواقع جوهر هذا الحلّ يبقى عند المغتربين اللبنانيين الذي يُساهمون بأكثر من 15 مليار دولار أميركي في الإقتصاد اللبناني سنويًا من خلال 7.5 مليار دولار أميركي تحاويل و6 إلى 7 مليار دولار أميركي من خلال السياحة التي يقومون بها. ويُمكن إضافة العديد من الإقتراحات التي قد تُساعد على الخروج من الأزمة وعلى رأسها تصدير سلع ومنتوجات لبنانية إلى دول فيها إنتشار لبناني كثيف ولما لا إعطاؤهم ليرات لبنانية في بلاد الإغتراب!
في الواقع الإقتراض من دول ومؤسسات دولية يفرض، بحسب الخطة الحكومية، أخذ الضمانات من صندوق التعافي الذي سيُصبح مرهونًا للخارج. وهنا نطرح السؤال لماذا رهن أصول لبنان يكون للغريب وليس للبنانيين وبالخصوص المُغتربين؟ لكل لبناني أينما وُجد الأحقية في أصول بلده.
بالطبع قد يتساءل القارىء عن كيفية القيام بهذا الأمر مع فقدان الثقة بالمصارف والطبقة السياسية؟ إلا أن الجواب يكمن بكل بساطة في إستقلالية القضاء، الشفافية وحق الوصول إلى المعلومات، ومحاربة الفساد. وإذا كان البعض يرى في هذا الطرح حلّماً أقرب منه إلى الواقع، إلا أن جوابنا هو مقولة هنري سباك «حلم اليوم هو حقيقة الغدّ، ومن لا يحلم لا غد له».