Site icon IMLebanon

الحكومة «تنصاع» لصوت العقل.. والقرار للصندوق

 

تلوح في الأفق مؤشرات اتفاق جديد قد يتم التوصّل إليه لتوحيد خطة الانقاذ بين الحكومة والمجلس النيابي والمصارف ومصرف لبنان، تمهيداً للانتقال الى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. اذا صحّت المعلومات، سنكون قد اجتزنا مرحلة الخلافات الداخلية على الارقام والمقاربات، وانتقلنا الى المرحلة الأصعب، مرحلة الالتزام وبدء تنفيذ الاصلاحات.

إبّان الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في العام 2008، نجا لبنان من تداعياتها التي انتشرت في معظم دول العالم. وكان يطيب لأحد المصرفيين اللبنانيين ان يؤكّد لسائليه انّ نجاة لبنان من الأزمة لا ترتبط بقدراته الاستثنائية غير المتوفرة في دول أخرى أكبر وأهم منه، بل لكونه خارج اللعبة. وكان يقول: نحن كمَن يدّعي النجاة من تسونامي ضرب المحيط، وتسبّب في غرق السابحين على الشواطئ، في حين اننا لم نكن نسبح هناك، بل كنّا نسبح في بركة مُغلقة امام المنزل.

 

هذا التوصيف على بساطته، ينطبق على الأزمة القائمة اليوم. البلد، ورغم انّ حجم الاموال الموجودة في مصارفه يساوي ثلاثة أضعاف حجم اقتصاده، بقيَ كَمن يسبح في بركة مغلقة. وبالتالي، اذا كان هذا الوضع قد شكّل امتيازاً حَمى الاقتصاد، في السابق، فإنه أصبح اليوم وضعاً استثنائياً، ينبغي مراعاة خصوصيته في أيّ حل مُقترح للخروج من النفق. ومن هنا، ضرورة التعاطي مع المعالجة وفق ذهنية حماية الاطراف الاربعة في المعادلة، (الدولة، مصرف لبنان، المصارف، المودع) وتوزيع الخسائر عليهم وفق قدرات كلٍّ منهم.

 

هذا المفهوم يعني ان لا نفع من توزيع الخسائر وفق مبدأ النسَب في المسؤولية عن الأزمة، لأنّ ذلك يقود الى تحميل الدولة النسبة الاكبر من الخسائر، وهذا ليس في مصلحة الحل. ولا يعني كذلك، تحميل المصارف أو المركزي كل الخسائر، لأنّ السلطة السياسية قادرة على التحكّم بمصير هذين الطرفين، لأنّ ذلك يؤدّي حتماً الى انهيار شامل أعمق وأخطر، ويجعل التعافي بعيد المنال لسنوات طويلة مقبلة.

 

إنطلاقاً من هذا المبدأ، يمكن صياغة خطة للتعافي لكي تخرج الاطراف الاربعة في المعادلة مُعافاة. وهي أشبه بأربع عجلات للسيارة لا يمكن الاستغناء عن واحد منها، وتوقّع السير بشكل طبيعي الى الامام.

 

أثبتت تجارب دول عديدة انّ الخروج من الأزمات لا يمكن أن يتم وفق وصفة موحّدة. ما يصح هنا قد لا ينجح هناك، وما يُجدي هنا قد يضرّ هناك. ولعلّ النموذج الاقرب زمنياً لإثبات هذا الواقع، ما جرى في كل من ايرلندا وايسلندا في فترة زمنية متقاربة إبّان الأزمة العالمية في 2008. إيسلندا عاكَست وصفات صندوق النقد، وتمرّدت على المفهوم السائد للانقاذ والخروج من الأزمات، وايرلندا حافظت على كلاسيكية المعالجة، والتزمت وصفات صندوق النقد والمؤسسات الدولية، ولم تتمرّد على المفاهيم السائدة في علم الاقتصاد. والنتيجة انّ الدولتين حققتا نجاحاً باهراً في الخروج من الأزمة في وقت قياسي، والعودة الى التعافي والازدهار. وهناك من يؤكد من علماء الاقتصاد، انه لو عَكسنا المشهد، وطبّقنا النهج الذي اعتمدته ايرلندا في ايسلندا والعكس صحيح، لربما كنّا شهدنا على فشل الانقاذ، وبقاء اقتصاد الدولتين في دائرة الانهيار.

 

هذا النموذج يؤكد انّ المعالجات الناجحة تنطلق دائماً من مبدأ مراعاة خصوصية كل حالة. والحالة اللبنانية فريدة نسبياً، لجهة حجم الودائع، وحجم الخسائر ونوعية الدين ومصادره، والقدرة على التعافي. لكن لا توجد أيّ خصوصية في مبادئ عامة لا إنقاذ من دونها، مثل وقف الفساد، الاصلاحات، الاستقرار، كسب الثقة الداخلية والخارجية… هذه عوامل مشتركة بين كل الدول، ولا توجد خصوصية تسمح بالقول انّ هذه المعايير يمكن ان تكون مهمة في دولة، وغير مهمة في دولة أخرى لتحقيق الانقاذ الاقتصادي.

 

في المعلومات المتوفرة حتى الآن، تتجه الامور عندنا لِتَبنّي مبدأ توزيع الخسائر بطريقة تحمي كل أطراف المعادلة، ما دمنا «نسبح» جميعاً في البركة الداخلية نفسها. ويبدو انّ الحكومة بدأت تنصاع لصوت العقل. وهناك ترجيحات ان تحظى الخطة التي سيتم التفاهم حولها بموافقة صندوق النقد لاحقاً مع بعض التعديلات الطفيفة. لكنّ المشكلة تبقى في الاصلاحات المطلوبة، وهي بيت القصيد، حيث لا بوادر حتى الآن على وجود قرار سياسي بإجراء الاصلاحات وخفض منسوب الهدر والفساد في الدولة. وأسوأ ما في هذا الموضوع، أنه باسم محاربة الفساد قد يتم هدر الفرص الانقاذية، والوصول الى الانهيار الكبير. ولمَن يسأل ماذا يعني الانهيار الكبير، يمكن له أن يقوم بمحاكاة بسيطة لمعرفة كيف سيكون الوضع، اذا أضعنا المزيد من الوقت ووصلنا الى مرحلة نضوب ما تبقى من احتياطي نقدي في مصرف لبنان. وماذا يعني أن يصبح سعر الليرة مقابل الدولار 6 أرقام…

 

أسوأ ما يجري اليوم الاستمرار في «الوَلدنات» وتغطيتها بادّعاء محاربة الفساد. وهذا ما يحصل في ملفات أصبحت تشكّل عناوين فساد سياسي في حد ذاتها، لأنها لا تهدف الى الانقاذ، بقدر ما تستهدف تسجيل النقاط، والضغط على فلان أو علتان. وهذا الوضع الشاذ واضح في طريقة مقاربة ما يُعرف بالـforensic audit والاموال المهرّبة، واسترداد الاموال المنهوبة والموهوبة، كلها تحولت عناوين فارغة من مضمونها الحقيقي، وباتت وسائل تَعمية ولهو، تشتّت التركيز على الاساس، وهو الانقاذ أولاً.

 

هذا الكلام لا يعني انّ المحاسبة غير مطلوبة، لكنها قد تأتي لاحقاً بعد إنقاذ المريض قبل حصول الوفاة. مع الاشارة الى أنّ أحداً لن يصدّق عناوين المحاسبة ما دام المُحاسب هو نفسه المُرتكب.