في الأول من تموز 2020، أقفل سوق القطع على ارتفاع سعر صرف الدولار بنسبة 120 في المئة في خلال شهر واحد، حيث تمّ تداول الدولار بـ9200 ليرة بعد أن كان بـ4180 ليرة في الأول من حزيران من السنة نفسها. وقد أدّت مراوحة سعر الصرف حول مستويات مرتفعة، إلى تسجيل معدل تضخّم تجاوز الـ 50 في المئة شهرياً لثلاثين يوماً على التوالي؛ وبات لبنان الدولة الثانية، إلى جانب فنزويلا، التي تعاني من تضخم مفرط Hyperinflation في 2020، والأولى في تاريخ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والـ62 في تاريخ العالم. وقد وثّق جدول «هانكي – كروس» العالمي للتضخم هذا الحدث الحزين؛ كما قصم التضخم المفرط ظهر المواطن اللبناني وخفّض قدرته الشرائية إلى أقل من الربع، مقارنة مع السنة الماضية، في ظلّ أزمة اقتصادية ومعيشية قاسية، منعته من سحب مدخراته من المصارف.
وقد دخل الخبير الاقتصادي العالمي البروفيسور ستيف هـ. هانكي من جامعة «جونز هوبكنز» على الخط، وهو أحد مصمّمي جدول «هانكي- كروس» العالمي، واقترح اعتماد حلّ مجلس النقد Currency Board لوقف التضخم ولجم تدهور سعر صرف الليرة والحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن اللبناني.
والبروفيسور هانكي، هو المرجع الأول لقياس نسب التضخم المفرط والخبير في حلّ مشكلات العملات المضطربة، وهو من هندس الإصلاحات النقدية في إستونيا وليتوانيا وبلغاريا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود والأرجنتين والإكوادور. ولكن على مبدأ أنّ الأرقام في لبنان هي مجرد وجهة نظر، راح البعض ينكر حقيقة وجود التضخم المفرط، من دون تقديم قياس دقيق وينتقد اعتماد حل مجلس النقد من دون تقديم حجة موضوعية أو شواهد علمية أو حتى أمثلة تاريخية.
وعلى رغم من الضجيج، فقد أجمع المنتقدون على قدرة مجلس النقد على وقف تدهور سعر صرف الليرة والسيطرة الكاملة على التضخم، وهما الهمّ الشاغل لجميع اللبنانيين لانّهما يحافظان على ما تبقّى من قدرة المواطن الشرائية ويقيانه من السقوط في الفقر والعوز والجوع. كذلك تسمح معالجة الحكومة للتحدّي النقدي بتسهيل إنجاز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، على عكس الألاعيب التي تجري حالياً. وهذا ما جرى تحديداً مع بلغاريا في العام 1997 عندما فشلت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فما كان من الحكومة البلغارية إلاّ أن طرحت حلّ مجلس النقد، فوافق الصندوق وأفرج عن قروضه الميسرة.
ومقارنةً مع العام 1995، ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الليف البلغاري 6 أضعاف عام 1996 و14 ضعفاً عام 1997؛ كذلك انخفض احتياط مصرف لبنان المركزي من العملات الأجنبية إلى النصف وانهار نمو الاقتصاد من 2.1% عام 1995 إلى سالب -11% عام 1996. وفي المناسبة، فإنّ كل هذه الأرقام هي شبه مطابقة لأرقام لبنان اليوم. وقد أدّى الانهيار الاقتصادي إلى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلي بنسبة 65%، فارتفع عجز الموازنة العامة من 13% عام 1996 إلى 52% في الربع الأول من عام 1997. وكان وضع المصارف البلغارية في حينه شبيهاً بوضع المصارف اللبنانية اليوم، إذ كانت 9 من بين أكبر 10 مصارف حكومية تعاني من خسائر هائلة، جعلت رأسمالها سلبياً، كما كانت نصف المصارف الخاصة مفلسة في ظلّ تهافت المودعين مطالبين بسحب دولاراتهم. فراح المصرف المركزي يطبع العملة الوطنية لتمويل عجز الموازنة العامة وتغطية خسائر المصارف، تماماً كما يفعل مصرف لبنان اليوم، ما أوصل نسبة التضخم في بلغاريا إلى 500% في كانون الثاني 1997 وإلى 2000% في آذار 1997.
ويوضح تقرير صدر عن صندوق النقد الدولي عام 1999، أنّ من انتقدوا فكرة مجلس النقد اعتقدوا ان بلغاريا لا تملك الشروط اللازمة لاعتماده، لأنّ خسائر القطاع المصرفي كبيرة، وعجز الموازنة العامة ضخم، واحتياط العملات الأجنبية قد تمّ استنفاذه، ما جعلهم يظنون أنّ مجلس النقد سيتطلب خفضاً كبيراً لسعر صرف العملة الوطنية. وقد شدّد هؤلاء المنتقدون في حينها على أنّ أياً من الدول التي اعتمدت مجلس النقد لم تكن تواجه حجم خسائر مماثلاً في القطاع المصرفي. وعلى رغم من الجدل البيزنطي، تقرّر أن يبدأ العمل بمجلس النقد رسمياً في 5 حزيران 1997، وتمّ اختيار المارك الألماني، لا الدولار الأميركي، عملة احتياط، كذلك تحدّد مستوى سعر الصرف الثابت بـ1000 ليف لكل مارك. وساهمت هذه الخطة في توصل الحكومة إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي على قروض لتمويل عجز الموازنة مقابل تطبيق إصلاحات صارمة وشفافة ومساعدة للقطاع المصرفي على تسهيل إعادة الهيكلة.
ومع الاعلان عن الاتفاق، عادت الثقة، وازداد الطلب على العملة المحلية واستقر سعر الصرف في 31 أيار 1997، أي قبل بضعة أيام من بدء العمل بالنظام الجديد، على 922.41 ليف لكل مارك ألماني. وانخفض تضخم بلغاريا على إثر إنشاء مجلس النقد إلى 1 في المئة بحلول نهاية العام 1998، وارتفع الاحتياط في العملات الأجنبية 4 أضعاف (من أقل من 800 مليون دولار أميركي إلى أكثر من 3 مليارات دولار أميركي). وكذلك انخفض سعر الفائدة الأساسي، والذي وصل إلى 200% في ذروة الأزمة، إلى 5.3% في تشرين الأول 1998 ليستقر على مستوى الفائدة المعمول بها على المارك الألماني (أي عملة الاحتياط). والأهم من ذلك، أنّه وعلى رغم من العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين بلغاريا وروسيا، فقد نجح مجلس النقد في حماية بلغاريا من الأزمة الروسية في منتصف العام 1998… وما أدراك بالأزمات المحيطة بلبنان اليوم.
وبالعودة إلى لبنان، فقد بدأت تكتمل عدّة عمل الحكومة، فتُناط بشركة لازارد (Lazard) معالجة خسائر مصرف لبنان و»ألفاريز ومارسال» (Alvarez & Marsal) معالجة خسائر المصارف التجارية. ولكن الحكومة ما زالت تفتقد خبراء في الإصلاحات النقدية والبنيوية، ومن هنا اقترح الاستعانة بخبرة ستيف هانكي للتفاوض مع صندوق النقد على إصلاحات يكون مجلس النقد عمودها الفقري. فبدلاً من أن تقتصر المقاربة على توزيع الخسائر، يغيّر مجلس النقد المعطيات ويسمح بعودة الثقة والتدفقات المالية ويخلق نمواً اقتصادياً كبيراً، ما يزيد من مداخيل الحكومة الضريبية عبر توسيع الصحن الضريبي، وينشط القطاع المصرفي ويخفف من خسائره. وطبعاً لا يمكن لمجلس النقد وحده معالجة كل خسائر القطاع المصرفي أو تصحيح كل اختلال الموازنة العامة، ولكنه بالتأكيد يطلق النمو ويصغّر من حجم المشكلة ويسهّل عمل «لازارد» و«ألفاريز» و«مارسال».