قيل الكثير في اليومين الماضيين في موقف صندوق النقد الدولي من خطة الانقاذ التي عرضَ الوفد اللبناني خطوطها العريضة في جولة المفاوضات الاولى. وقيل أكثر في الظلم الذي سيلحق بالمودعين جرّاء هذه الخطة. ماذا يعني ذلك؟ وهل لا يزال التفاؤل في إمكان إنجاز اتفاق مع الصندوق في غضون شهرين قائماً؟
بين كل التعليقات والتسريبات التي طَفت الى السطح، ومنها الدقيق وغير الدقيق، ساد انطباع عام مفاده ان الامور لا تزال تدور في حلقة مفرغة، بل انها قد تعود الى المربع الاول، من خلال مجموعة حقائق ومؤشرات، أهمها ما يلي:
اولاً – دخول رئيس الجمهورية على الخط وانتقاده العلني لمضمون الخطة ووصفه المقترحات الواردة فيها بـ»الوقاحة»، على اعتبار انها تلقي «على المودعين الجزء الاكبر من الاعباء، فيما مَن أهدر أموال الناس يتحمّل الجزء الأصغر. كيف سنطلب من الناس القبول بمزيد من التذويب لودائعهم وحقوقهم بينما لا يوجد بعد في السجن ولو شخص واحد من اولئك الذين سطوا عليها وتسبّبوا في إفقار أصحابها؟ وليكن معلوماً انني لن أقبل بأن يدفع المودعون الثمن الأكبر للحل كما دفعوا الثمن الأقسى للأزمة».
ثانياً – ملاقاة رئيس مجلس النواب رئيس الجمهورية في مسألة حقوق المودعين، واعلانه ان «لا كابيتال كونترول لمصلحة المصارف ما لم يكن هناك قانون يحفظ اموال المودعين حتى آخر قرش، ولا يمكن ان أقبل بتحميل اي خسائر للمودعين فلبنان ليس بلدا مفلسا على الاطلاق وهناك مؤسسات يمكن ان تنجح مثل الميدل ايست والريجي».
ثالثاً – هناك أحزاب وقوى سياسية بدأت تتحدث اكثر فأكثر عن ضرورة الحفاظ على حقوق المودعين بالكامل، وانها لن توافق على اي خطة لا تراعي هذه النقطة بالذات.
رابعاً – جرى الترويج لأجواء منقولة عن صندوق النقد مفادها ان الصندوق رفض مقترحات الوفد اللبناني انطلاقاً من مسألة رفضه المَس بحقوق المودعين، وان رئيس الحكومة اضطر الى العودة الى «لازارد» للمساعدة في إعادة صوغ مقترحات يمكن ان تتماهى ومتطلبات صندوق النقد.
من خلال المواقف السياسية المعلنة، يمكن الاستنتاج ان الحسابات الانتخابية هي الطاغية في هذه المرحلة، وكما انه يصعب إقرار موازنة اصلاحية للعام 2022 لهذا السبب بالذات، كذلك يستحيل اعلان خطة انقاذ موجعة. وبالتالي، أصبح من المؤكد ان لا خطة انقاذ ولا من ينقذون في هذه الحقبة، بانتظار انتهاء الاستحقاق الانتخابي.
أما في مسألة موقف صندوق النقد، فهناك مغالطات قد تكون مقصودة وقد تكون عفوية ونابعة من قلة المعرفة بطريقة عمل هذه المؤسسة الدولية. إذ ليس صحيحاً ان الصندوق يمكن ان يرفض خطة للتعافي استنادا الى حقوق المودعين، بل ان أي رفض لأي خطة قد ينبع من قناعة الخبراء في الصندوق بأنها لن تنجح بسبب الأثقال التي ستُلقى على عاتق الاقتصاد. وبالتالي، من وجهة نظر خبراء الصندوق، ان الخيار هو بين معادلتين: إما وضع خطة عادلة ومنصفة حيال المودعين (عددهم حالياً حوالى المليون)، وإما وضع خطة منصفة مع الاقتصاد المستقبلي تسمح بالتعافي في فترة زمنية منطقية، وتكون بالتالي عادلة مع بقية المواطنين (عددهم حوالى الـ4 ملايين).
ومن خلال التجارب العديدة مع دول أخرى، يمكن الاستنتاج أن الصندوق يوافق على واحد من أمرين: إمّا اقتطاع ما يلزم من الديون، لضمان التعافي الاقتصادي المستقبلي وفق جدول زمني محدّد بالخطة، وإما تحويل الديون والودائع والخسائر الى عُملة البلد، (الارجنتين أحد النماذج)، وتحمّل تبعات التضخّم، وهي تبعات سيعانيها كل سكان البلد المعني. أما أنصاف الحلول، والتي في الاجمال لا ترضي المُقرض، ولا تُنصف الاقتصاد وتساعده على التعافي، فغالباً ما يرفضها الصندوق ويرفض تمويل هذا النوع من الخطط.
الواقع اليوم ان حجم إيداعات (توظيفات) المصارف في مصرف لبنان تبلغ حوالى 87 مليار دولار، لا يوجد منها فعليا سوى 12 مليار دولار. واذا اقتطعنا رساميل المصارف المقدّرة بحوالى 21 مليار دولار على سعر 1500 ليرة، وهي عملياً اصبحت اليوم لا تزيد عن مليار ونصف المليار دولار، مضافاً اليها الاموال المتوفرة في حسابات المصارف الخارجية، فإنّ المجموع العام لما هو متوفّر لا يتجاوز في أحسن الحالات الـ17 مليار دولار، بما يعني ان الفجوة تصل الى 70 مليار دولار. فمن اين سيتم تأمين هذه الدولارات لإعادة حقوق المودعين بالكامل؟